همتك نعدل الكفة
493   مشاهدة  

السيرة الكلثومية.. قصة درة القرن العشرين وكوكب الشرق الآنسة أم كلثوم إبراهيم.. الحلقة الأولى: (مقدمة)

أم كلثوم


حين يسألني الناس باعتباري صييت وباحث في الشأن الموسيقي عن أفضل صوت مدرك، وإن كانت إجابتي على هذا السؤال من باب أن يأتنس الناس بها، على اعتبار قولي الدائم بأن الفن كالطعام ولكل نفس ما تشتهيه، لا أجد أمامي سوى القول صدقا بأن أجمل صوت نسائي مدرك هو صوت الآنسة أم كلثوم إبراهيم، ويقابله في الرجال صوت المرحوم الشيخ محمد رفعت.

ولعل طريقة تعرفي على أم كلثوم وفنها كانت مختلفة بعض الشيء عن طريقة تعرف الكثير من مستمعيها ومحبيها عليها، فقد أحببتها من تلك المنطقة التي ينفر منها أكثر مستمعيها، وتقربت إليها من حيث ذلك الجانب الذي لم يكن قد نضج بعد، فاستهواني فنها البكر قبل فنها الناضج، ولذلك نفرت مما قدم في مراحل متأخرة في حياتها من حيث الألحان والكلمات، أما صوتها المجرد فأحببته حين تكلمت وحين غنت وحين قالت الآه وحين صرخت وحين بكت.

رجال حول الست أم كلثوم .. الشيخ أبو العلا محمد المعلم الأول

كانت طقطوقة يا كروان والنبي سلم، على الحبيب وابقى اتكلم، من ألحان المرحوم الطبيب أحمد صبري النجريدي، هي مدخلي لذلك العالم الكلثومي الفسيح، جذبني بشدة صوتها الحاد، فلم أعول على سرعة التسجيلات ولم تهمني صحتها بقدر ما جذبتني عرب الآنسة وجرأتها وحريتها في التنقل بين الطبقات، تعجبت من طريقتها في الغناء، وانسجمت مع منهج المشيخة الذي زين صوتها وزخرفه، ووجدت نفسي وكأنني أتعاطى مخدرا اسمه فن أم كلثوم إبراهيم، فما أن تتوقف عن الغناء حتى يبدأ قلبي وعقلي يسألاني، أين صوتها وأين فنها، فلا أجد بدا من المواصلة.

لم يسعدني الحظ بمعاصرة درة القرن العشرين وكوكب الشرق حتى أعبر لها وجها لوجه عن حبي الشديد لها واليوم أكتب لها وعنها، معرفا بها وبفنها، معتبرا ذلك ردا لعظيم جميلها عليّ في أمور الحياة والحب والفراق والخوف والطمأنينة، نعم، فتلك هي أم كلثوم بالنسبة إلي وبالنسبة لكل محب لها بصدق، والتي قالت والله ماحدش جنى غير قلبي ده عليا أنا، فأشعرت كل من خذل بملامة روحه ونفسه، أم كلثوم التي قالت أيها الفلك على وشك الرحيل، قف، تمهل، فخلعت قبل المودع وأبكت عينيه، والتي عانق صوتها فكر شاعر الشباب رامي في معجزة هوى الغانيات(كيف مرت على هواك القلوب)، فأصاب القلب من حرارة فنهما جوى ولهيب، أم كلثوم الخواص التي لا يعرفها العوام، التي عبرت عن مكنون المحبين وألهمت العاشقين فباتت ربة الفنون والمعاني، وأخذت من لقب صاحبة العصمة مفهوما آخر لدى مريديها، أم كلثوم التي حوى صوتها القوة والدفء والقدرة والسلطنة والشجن فما أنشدت أو غنت أو تأوهت إلا وصلت وبشدة لأعماق مستمعيها، أم كلثوم التي تسائلت بفكر زكريا المفن وقالت يا قلبي كان مالك ومال الغرام؟ فبات كل محب مغلوب على أمره يسأل ذات السؤال، أم كلثوم يا قلبي بكرة السفر، وفاكر لما كنت جنبي، والآهات ورق الحبيب وأهل الهوى وسلو كؤوس الطلا، عالم كبير ينبغي على كل مستمع ومحب للفن المسموع أن يتجول فيه، حديقة كبيرة لزاما على كل شارب لهذا الفن أن يقطف منها قدر استطاعته، واليوم أكتب لها عسى أن ألتقيها يوما ما في العالم الآخر فأقول لها ها أنا أكتب عنك، ولك، محبا لا موثقا يا أم كلثوم.

وليعلم كل قاريء لتلك السلسلة أننا لا نتحدث عن شخص عادي، أو مجرد مطربة وإن كانت علما من أعلام موسيقانا العربية الخالدة، نحن نتكلم عن أم كلثوم التي لم ولن تقارن بغيرها، نحن في حضرة الحديث عن مرسال المحبين المخلصين، من تكلمت فأسمعت الدنيا فكانت حديثا وشغلت الناس، تقول الدكتورة رتيبة الحفني: قالوا عن أم كلثوم أنها أسطورة، ووصوفها في الغرب بأنها أشهر من جان دارك وأنها تفوقت على إديث بياف وماريا كالاس، هذه العملاقة التي بدأت منذ فترة مبكرة وعاشت وسط الفلاحين، لأنها فلاحة من ريف مصر السخي، ذاقت الفقر والحرمان والجوع والشقاء، واستطاعت في النهاية أن تصل إلى أعلى مراكز التقدير من شعبها ومن شعوب العالم كله، وفي خطابها لها تقول الكاتبة الراحلة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد: أيها الصوت من السماء، كلما أصغيت إليك أمسكت بالقلم طامعة في تسجيل رفرفة نفسي الفرحة المرتاحة لنشيدك، فأحجم؛ لأن الجمال إذا بلغ الغاية من الكمال قد يفسده الوصف مهما تأنق وأفتن، وهيهات للشعاع أن تمسكه اليد، أو تحدق في شمسه العين، ولكني هذه المرة أقدمت على الكتابة لأني لم أقو على الدمعة التي تألقت في عينيك المفداة، يغمطك قدرك من يزعمك تغنين فحسب، إنك في مقامك شادية وشاعرة وخطيبة وداعية إلى الآمال الكبار، وباكية على آلامنا الكبار أيضا، إنك قطعة منا، إنك ذخر كبير من ثروتنا القومية، إنك ري لظمأ هذا الشعب الصادي، والمتاع الوحيد في حياته الكابية يعوضه عما يعانيه من ضنى وحرمان، إن الشعب الذي يصغى إليك بحواسه كلها مكبوت، وعندك يجد متنفسا تغنينه وتشجينه وتسرينه وتبكينه، وهو سعيد بالشجو والغناء والسرور والبكاء على السواء، إنه ليس أمام مغنية ولكنه يعتقد بإحساسه أنك قيثارة الله، فما هذه الألحان من الأرض التي تتنكر للفن في زحمة المال والعلم.

إقرأ أيضا
خان يونس

فتحية أحمد و أم كلثوم .. الملكة والوصيفة ولعبة الكراسي المتحركة على عرش الغناء

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
20
أحزنني
0
أعجبني
12
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
9


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان