السيرة الكلثومية.. قصة درة القرن العشرين وكوكب الشرق الآنسة أم كلثوم إبراهيم.. الحلقة الخامسة
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة الخامسة من قصة كوكب الشرق أم كلثوم، وفيها نكمل ما بدأناه من حديث عن فترة طفولتها التي مثل الكتاب فيه خروجا للحياة العامة واندماجا مع البيئة المحيطة بها أهلها فيما بعد للخروج من محافظة الدقهلية، استمرت أم كلثوم في الذهاب إلى الكتاب برفقة أخيها خالد، تكمل تعلم القرآن الكريم والقراءة والكتابة فيما كانت ظروف أخرى تتهيأ لتلك الفتاة التي لم تكن لتنسجم إلا مع ميولها الفنية وحبها للغناء، وقد كانت البيئة المحيطة بأم كلثوم الطفلة في غدوها ورواحها ترسم معالم طريقا جديدا لها هي بطبيعتها تحن إليه، وقد نقل الدكتور فيكتور سحاب عن الدكتورة نعمات أحمد فؤاد مقطعا معبرا عن هذا الخروج.
وأشار بنقله نصا تقول فيه الدكتورة نعمات: صحب خالد أخته إلى الكتاب وكان طريقها إليه يشيع فيه النغم، فالعصافير فوق غصون الشجر تشقشق، وأمواه النيل تنساب في الغدران التي تمر بها انسايبا نغميا فيه عذوبة وفيه جمال، وحفيف الشجر من معابثة النسيم، ورفيف النبت في المزارع الخضر، وزفيف الريح في الفضاء الفسيح، وأنين الساقية في المروج القريبة، وثغاء الأغنام يختلط بغناء الراعي من بعيد، وزامر القرية يجوب طرقاتها في صحبة الناي يبكيه بأنامله فيشجي ويبعث الحنين.
كان صوت الشيخ أبو العلا محمد هو أول الاصوات الواضحة التي سمعتها أم كلثوم وأحبتها، ففي طريقها للكتاب وبجوار سور دوار العمدة كانت تقف لتتسمع إلى صوت الفونوغراف بالدوار حيث تدار اسطوانات قصائد الشيخ أبو العلا كقصيدة أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه، وقصيدة وحقك أنت المنى والطلب، وقصيدة غيري على السلوان قادر وغيرها، أحبت أم كلثوم صوت الشيخ أبو العلا وبدأت تحفظ ما تسمعه قبل أن تفهم حتى معاني الكلمات التي يتغنى بها الشيخ في قصائدة، وعند عودتها للبيت كانت تغني ما حفظته، وقد أعجب والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي بأدائها هذا لأنه كان من محبي تلك القصائد وكذلك من محبي صوت الشيخ أبو العلا محمد.
أم كلثوم من لعبة كرسي السلطان إلى ركوب حمارة خاصة:
من الذكريات التي ظلت أم كلثوم تحكيها عن نفسها أنها ذات يوم ممطر عاصف وأثناء عودتها من الكتاب برفقة أخيها خالد وصابر ابن زوج شقيقتها إذ غاصت أقدام الثلاثة في الوحل، فأخذت أم كلثوم تبكي ولما مرت بهم عربة تعلق خالد وصابر بها وتركاها وحدها تستغيث دون جدوى إلى أن مر بها أحد أبناء القرية فحملها معه على دابته، ولما دخلت المنزل وجدت والدها يهم بالخروج للبحث عنها بعد أن عاقب خالد وصابر بما يستحقانه، وبعد تلك الواقعة استمرأت أم كلثوم الذهاب إلى الكتاب ركوبا ولم يكن تحت تصرفها وسيلة للركوب، فدفعها ذكائها وفطنتها إلى استخدام لعبة كرسي السلطان مع خالد وصابر بالتناوب، وهي لعبة تقضي أن يشبك طفلان أيديهما فيشكلان ما يشبه المقعد الذي يحتله الطفل الثالث، وكانت فطنة أم كلثوم تدفعها إلى التحايل على خالد وصابر واجتياز القسم الأكبر من الطريق وهي جالسة على كرسي السلطان، في هذه الفترة بدأ الشيخ إبراهيم البلتاجي والد أم كلثوم يصطحبها معه في الليالي والحفلات بعد أن استمع إليها وآنس منها موهبة تؤهلها لذلك، فضلا عن حاجته إلى المزيد من الدخل لإعالة تلك الأسرة الفقيرة، وكانت أولى تلك الحفلات في السنبلاوين، وقتها كان على الفرقة أن تسير على الأقدام من القرية وحتى المدينة.
وكان أفراد الفرقة يضطرون إلى حمل أم كلثوم الطفلة التي لن تقوى على ذلك الطريق الطويل فكان يحملها كل منهم مسافة ما ثم يحملها الآخر وهكذا حتى يصلوا لوجهتهم، وبعد انتهاء الحفل كانت ام كلثوم تأكل طبقها المفضل(المهلبية)، دون أن تفكر في المال، فكان مجرد حصولها على قرش أو قرشين يكفيها لما يشغل بالها من سداد مصاريف الكتاب، وليلة تلو ليلة وسهرة بعد سهرة بدأ اسم تلك الطفلة يلمع وبدأت العائلات الكبيرة تطلبها بالاسم لتغني في مناسباتها السعيدة، ومن القرية انتقلت أم كلثوم إلى قرى أخرى مجاورة ومنها إلى مدن مجاورة واختلفت أساليب انتقالها وتحولت من الانتقال بالحمير إلى الانتقال بالقطار، وقد كانت أم كلثوم في طفولتها تحب ركوب القطار وكانت إذا ما وصل القطار إلى وجهته تابى مغادرته وتبدأ في البكاء فيعدها والدها بركوبه في طريق العودة، واستمر الوضع على ذلك إلى أن توسعت دائرة تحركات الفرقة وانتقلت من محافظة لأخرى وارتفع أجر أم كلثوم فوصل لمائة وخمسين قرش وكان ذلك في عام 1915م، وقتها اعتبر والدها هذا المبلغ علامة ثراء، فاشترى حمارا تركب عليه أم كلثوم، وسار هو وأخيها على الأقدام، وفي عام 1916م زاد إيرادهم من الحفلات أكثر وأكثر فاشترى حمارين آخرين وأصبح الثلاثة يركبون الحمير في تنقلاتهم.
السيرة الكلثومية.. قصة درة القرن العشرين وكوكب الشرق الآنسة أم كلثوم إبراهيم.. الحلقة الثانية
أم كلثوم الطفلة ومتاعب البدايات:
لم تخرج أم كلثوم للنور بسهولة، ولم يهيأ لها العرش وهي بنت ذوات، بل كابدت وعانت طيلة طفولتها وفترة انتشارها معاناة صعبة، والحكايات التي وردت عن تلك الفترة كثيرة وروتها أم كلثوم بنفسها، وأولى تلك الحكايات ما روته أم كلثوم عن حفل عرس في مدينة نبروه بالمنصورة، استقلت القطار هي ووالدها والفرقة من محطة السنبلاوين إلى المنصورة ثم عبروا النيل إلى طلخا ومنها توجهوا إلى نبروه عبر طريق ضيقة، فلما اقتربوا من المنطقة اكتشفوا أن أصحاب الفرح لم يؤمنوا لهم الركائب التي ستحملهم إلى القرية البعيدة فقام والدها باستئجار الركائب المطلوبة ولما وصلوا إلى تلك القرية البعيدة فوجئوا بهدوء غريب فلما قرعوا الباب خرج إليهم صاحب الفرح وكانت الصدمة أن أخبرهم أن الفرح قد تأجل، فلما سأل الشيخ إبراهيم عن سبب عدم إبلاغه نبأ التأجيل تلقى الجواب الصاعقة: ولماذا نخبرك والقرية كلها تعرف ذلك.
مسافات طويلة دون جدوى قطعتها أم كلثوم في سبيل تلك الهبة والمنحة التي احتاجت كل هذا الجهد لترى النور، انتظارا بالساعات في محطات القطارات تحت المطر، فقط من أجل حفل ستحصل فيه الفرقة كلها على جنيه ونصف، وتحكي أم كلثوم عن أنه كثيرا ما كانت الفرقة تصل للمحطة بعد قيام القطار بدقائق فكانوا يضطرون لانتظار القطار التالي اثنتي عشرة ساعة كاملة تحت المطر وفي عز البرد، حيث كان القطار الذي يستقلونه يمر مرتين فقط مرة في السادسة صباحا ومرة في السادسة مساء
وفي حديث لأم كلثوم تحكي فيه عن ذكرياتها مع تلك المتاعب تقول، دعينا لإحياء فرح في القرشية بجوار مدينة طنطا، فلما صعدنا على المنصة تقدم إلينا أحد الداعين وقال لنا عندما ترون هذا الفانوس الكبير قد انكسر انزلوا واختبئوا تحت المنصة، فلما سأل الشيخ إبراهيم عن السبب اتضح له أن الحفل ما هو إلا كمين لأهل قرية مجاورة قصد به حضورهم لينهالوا عليهم ضربا، تقول أم كلثوم: وما كدنا ننهي الدور الأول حتى انكسر الفانوس وانقلب الحفل إلى معركة كبيرة إلا أن أهل تلك القرية المجاورة كانوا هم المنتصورن لأنهم علموا سلفا بالنية المبيتة لهم فاستعدوا جيدا للمعركة.
سنوات طويلة من المتاعب والشقاء خاضتها في طفولتها لتوفير القليل من الأموال التي تساعد بيتها على العيش، فيما عرف بسنوات السير على الأقدام، ففي مذاكراتها التي كتبها علي أمين ورسمها بيكار تقول أم كلثوم: مسحت بقدمي الصغيرتين القطر المصري قرية قرية قبل أن أضع قدمي في القاهرة، وحول ذلك تحكي الست عن حفلة اضطرت للوصول إليها إلى ركوب الحمار أربع ساعات متواصلة في جو قارص البرودة بعد رحلة طويلة في قطار الدلتا، وعندما حان موعد الغناء، كان أصحاب الحفل قد جهزوا لضيوفهم وسائل التدفئة ولكنهم لم يعيروا الفرقة أية اهتمام ومن بينهم تلك الطفلة التي كانت ترتعد من شدة البرد، ولما حاول الشيخ ابراهيم حل تلك المعضلة بخلع عبائته وإلقائها على أم كلثوم وجد أن البرد ما زال ينخر عظامها فصرخ بأعلى صوته مهددا أصحاب الحفل بالانسحاب إن لم يوفروا لها وسيلة تدفئة كالمدعوين، فكان له ما طلب في النهاية
وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد صلنا إلى نهاية تلك الحلقة على أن نكمل في حلقات قادمة إن شاء الله
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال