السيرة الكلثومية (41) عندما فكرت كوكب الشرق في الاعتزال قبل وفاتها بـ 8 سنوات
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة الحادية والأربعين من السيرة الكلثومية .. قصة كوكب الشرق ودرة القرن العشرين الآنسة أم كلثوم إبراهيم، وها هي الرحلة قد أوشكت أن تنقضي بعد إحدى وأربعين حلقة من التاريخ الحافل بالنجاحات، واليوم نتحدث عن عدة نقاط هامة من حياة كوكب الشرق ونبدأها بتقديس أم كلثوم للفن واحترامها لجمهورها.
كوكب الشرق أم كلثوم واحترامها للفن والجمهور:
من الأمور المأثورة عن كوكب الشرق أم كلثوم أنها كانت رغم موهبتها الفذة تخشى جمهورها أو كما يقول البعض “تعمل له ألف حساب” فما تعاظمت مرة ولا تكبرت، وكانت تعلم أن لكل جواد كبوة بل وكانت تخشى تلك الكبوة، ومن القصص التي جاءت على لسان أقاربها في هذا الشأن ما رواه المهندس محمد دسوقي ابن أخت أم كلثوم والأقرب لقلبها من بين أقاربها، ويقول في إحدى اللقاءات: كانت أم كلثوم تجلس إلى جانبي في السيارة، وكنا في طريقنا إلى المسرح، وكانت مستغرقة في تلاوة القرآن الكريم وكأنها ستدخل امتحان للمرة الأولى، وسألتها: لم كل هذا القلق؟ هل نسيت أنك أم كلثوم؟ لو غنيت أي شيء حتى لو كان ريان يا فجل، فإن الجمهور ملهوف إليك، فالتفتت إليّ في حسم وقالت: بلاش يا محمد، اوعى تقول كده تاني أبدا، إن الجمهور يقبل منك ما تعطيه لأنك تتفانى معه، إذا خطر ببال أي إنسان أن يثق في نفسه لدرجة الغرور فإنه لن يعطي كل ما عنده بإتقان، وحينئذ لن يرحمه الجمهور.
من مظاهر تقدير أم كلثوم لجمهورها استجابتها لطلباتهم، فالمتتبع لنتاج كوكب الشرق أم كلثوم والمستمع لفنها يدرك جيدا تلك المسألة، فما أدت أم كلثوم أغنية لها بشكل واحد في حفلتين، كانت أم كلثوم تنزل على رغبة مستمعيها فتعيد كلما استعادوها، وترتجل وتفرد كلما انسجم الجمهور معها وأحست برغبتهم في المزيد، ربما أعادت كوبليهات كاملة مرة واثنين وثلاثة لذلك الجمهور المتعطش لجرعة زائدة من فنها الذي لا ينتهي، وهو أمر مروي عن أم كلثوم منذ بداياتها، فما من مطرب أو موسيقى أتيحت له فرصة الحديث في اللقاءات والمقابلات إلا وأكد على ذلك المعنى، فالدور الذي كانت تسجله أم كلثوم على اسطوانة مدتها للوجهين سبع دقائق كانت تغنيه على المسرح في ساعة وساعة ونصف، صحيح طبيعة التسجيل تختلف عن الحفل إلا أن ما أكد عليه كل من تحدث في هذا الشأن هو إرضاء ثومة لجمهورها منذ أن كانت صبية وهو مظهر من مظاهر تقدير واحترام الجمهور لا يمكن إغفاله أبدا ونحن بصدد الحديث عن تقدير أم كلثوم واحترامها لجمهورها.
سجلت كوكب الشرق كل أعمالها بهذا الإخلاص وذلك التفاني ولذلك عاش فنها وبقي إلى يومنا هذا، لم تدع أم كلثوم موطنا من مواطن الجد والاجتهاد في مجال الفن إلا وتركت بصمتها فيه حبا وشغفا بفنها واحتراما لجمهورها الذي كان ينتظر منها المزيد والمزيد، وعلى عكس الكثيرين كانت أم كلثوم شديدة التواضع لم يعرف الكبر لنفسها طريق منذ جاءت للقاهرة وحتى توفيت في فبراير 1975م، صحيح كانت تعرف قدرها وقيمتها الفنية إلا أن ذلك لم يعبث بقلبها أو عقلها ولم يحملها على أن تتكبر أو تتعاظم على جمهورها، لذلك أحبها الجميع موسيقييون ومطربون ومستمعون.
اقرأ أيضًا
حلقات السيرة الكلثومية
وعن اجتهاد أم كلثوم وذكائها وحرصها الشديد على تقديم أفضل ما عندها للجمهور يقول المهندس محمد الدسوقي: “كان أشد ما تحرص عليه أم كلثوم قبل أن تغني في حفلة عامة هو إجراء عدة بروفات، فهي تارة تجتمع بالملحن وتارة تجتمع بأفراد فرقتها، ولا يمكن أن تذهب إلى حفلة دون أن تجري بروفة لها، ولكنها ومع ذلك كانت في كثيرمن الأحيان تغني أغاني غير التي غنتها في البروفة، فقد كانت أم كلثوم تعتبر الأغنيات التي ستغنيها سرا من الأسرار التي يجب ألا يعرفها أحد، وكانت تجري البروفات على عشر أغان لتختار منها ثلاث فقط، وكانت تحرص كل الحرص على أن تختار الأغنية التي تلائم الجو، فكانت تتمتع بقدرة فائقة على معرفة ذوق الجمهور بمجرد أن تلقي نظرة سريعة من فتحة الستار، وكانت تذهب إلى الحفلات وهي جائعة جدا، ولا تأكل إلا في الساعة الرابعة صباحا بعد أن تنتهي من الحفل، ثم تنام ثلاث أو أربع ساعات فقط، ثم تستيقظ لتتناول إفطارها، وكان العشاء والغداء يتكونان من الفاكهة”.
وراء الكواليس خبايا وأسرار كثيرة عن أم كلثوم التي عرفها الجميع بصوتها الأخاذ، فالأمر كما يقول الموسيقيين ليس مجرد موهبة كبيرة وعظيمة، فأسلوب حياة الفنان وذكائه عاملان مهمان لولاهما ربما ما وصلت كوكب الشرق أم كلثوم إلى ما وصلت إليه من تربع بجدارة على عرش الطرب في مصر.
ولكن، هل فكرت أم كلثوم في اعتزال الغناء؟
أم كلثوم تفكر في اعتزال الغناء:
من خلال تلك السلسلة وعلى مدار الحلقات السابقة ربما استطعت عزيزي القاريء أن تكون فكرة شبه مكتملة عن شخصية أم كلثوم القوية وعن صلادتها وتمسكها المستمر بالقمة، إلا أن الإنسان بطبيعته ضعيف قد يأتي الوقت الذي تخور فيه قواه فلا يكون قادرا على المواصلة، وهذا بالضبط ما حدث لكوكب الشرق بعد سنة 1967م، حين مر الوطن بمحنة النكسة، وعن ذلك تحكي أم كلثوم فتقول: مزقتني محنة وطني، وقررت اعتزال الغناء بعد نكسة 1967م، لم يكن ممكنا أن أفرح أو أن أضع في صوتي لحظات فرح تمنح طربا ولا ترضي مزاجا، كان الحزن طاغيا علي وعلى كل المصريين، كاد يشلني ويحبس صوتي، ولم ينقذني إلا بريق أمل في لحظة يأس قائلة إن مصر لن تنهزم، إن تاريخ مصر في النضال قد تحدى كل النكسات، لقد صمدت مصر في أيام المحن كي تنتفض، وصنعت انتصاراتها العظيمة، رأيت في صوتي رغبة في الانطلاق، أصبح الغناء مجندا، والطرب وسيلة لهدف عظيم قادم، تحويل الهزيمة إلى نصر والثأر من النكسة، مشاركة أبناء وطني في المخاض العظيم لميلاد الحرب التي تستعيد فيها مصر كرامتها وأرضها وكبرياءها، وتراجعت في قراري عن الاعتزال، إلا أن عودتي بعد عام 1967م لم تكن للغناء، لم تكن للغناء بالمعني الذي عشته والذي أعرفه جيدا، لم تكن للغناء الذي أديته من قبل، فقد عرفت هذا الفن وعرفني، بل وعرفناه جميعا من صوتك يا أم كلثوم، كانت عودتي نوعا من وضع السلاح الذي أملكه في خدمة بلدي، ووضعت صوتي، وكانت رحلاتي حول العالم.
بدأت كوكب الشرق أم كلثوم رحلاتها بعد النكسة كما ذكرنا من قبل، فسافرت لباريس وعادت بعائد كبير سخرته للمجهود الحربي، وباتت أم كلثوم سفيرة السلام في مصر بل وفي الوطن العربي كله بفنها العظيم وبذلها في سبيل الوطن.
وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة من سلسلة السيرة الكلثومية على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال