السينما الحربية في مصر.. رحلة الفيلم الحربي من الأخوين لاما وصولا للسرب (1-2)

تعتبر السينما الحربية هي النوع الأكثر رواجًا في السينمات، بل إن العديد من النقاد يعتبرونها الأفلام الأكثر إنعاشًا لسوق السينما، فعلى الرغم من التكلفة الإنتاجية الكبيرة للأفلام الحربية، بما تستلزمه من مؤثرات خاصة وخدع ومجاميع وأماكن تصوير وديكورات وانفجارات وغيرها، إلا إن مردودها المادي كبير أيضًا، ولكن السؤال هل هذا يسيري على السينما المصرية؟ والسؤال الأهم كيف تطورت الأفلام الحربية في السينما المصرية؟

ما قبل حرب فلسطين

في البداية الفيلم الحربي إما مستند على أحداث حقيقية تاريخية، آيا كان شكل هذا الاستناد، على واقعة تاريخية أو زمن الفيلم يدور في زمن حرب حدثت بالفعل، أو يكون فيلم خيالي يدور عن حرب لم تحدث في أرض الواقع، وما يفصله عن الفيلم التاريخي أن تكون الحرب أو الصراع العسكري هو محور الحدث.

في البداية اقتصرت الأفلام المصرية التي بدأت في عرض المعارك والمشاهد الحربية بين طيات أحداثها، على الوقائع والشخصيات التاريخية مثل فيلم “صلاح الدين الأيوبي” للأخوين بدر وإبراهيم لاما عام 1941، وأفلام عنتر بن شداد التي قام ببطولتها “سراج منير”، وعلى الرغم أن الأفلام الحربية كانت في أوج انتشارها عالميًا في النصف الأول من الأربعينيات وشهدت تطورًا كبيرًا، لمواكبة أحداث الحرب العالمية الثانية واستخدامها في الدعاية السياسية لكلًا من المعسكرين المتحاربين، ذلك الرواج الذي لفت نظر صناع السينما إلى أن الشخصية العسكرية من الشخصيات الثرية دراميًا، إلا أن السينما المصرية لم يكن لديها الأساس الذي تبنى عليهن فلم يكن حتى متعارف وقتها أنه من الممكن تقديم فيلم حربي خيالي، بواقعة خيالية لم تحدث في الأصل.

ما قبل ثورة يوليو.. الأفلام الحربية بين السياسة والحرب

ومع حرب 1948 تنفست السينما المصرية الصعداء، الآن أصبح هناك حدث معاصر يمكن أن نبني عليه سينما، ولكن لأن السينما عملية معقدة وتتعارض في كثير من الأوقات مع التيارات السياسية المتواجدة على الساحة، كان الحديث عن حرب فلسطين في السينما المصرية قبل عام 1952 يأتي على استحياء شديد.

فبخلاف عزيزة أمير ومبادرتها السريعة وإنتاجها لفيلم “فتاة من فلسطين” عام 1948 من إخراج وبطولة محمود ذو الفقار، تراجعت السينما المصرية عن ذكر حرب فلسطين، أو تقديم أفلام تدور في تلك الأجواء الحربية، ربما في ظل سيطرة القصر الملكي وقتها وتورطه أو شائعات تورطه في هزيمة الجيوش العربية، أو لعل السبب الرئيسي هو هزيمة الجيوش العربية!

السينما في تلك اللحظة كانت إحدى أقوى أدوات الدعاية، ما فعلته الحرب العالمية بالسينما وتحويلها لمنصة لطرح الأفكار والترويج إليها، جعلها أهم وسيلة دعاية، لذلك ليس من المنطقي أن تقوم دولة بالدعاية لهزيمتها، وفي هذا تفسير ربنا يكون منطقي وواقعي لعزوف السينما المصرية عن تناول حرب فلسطين قبل ثورة يوليو.

سينما حربية على استحياء وسط تصفية حسابات العهد الملكي

والحقيقة أن من ضمن التغيرات الجذرية التي أحدثتها ثورة يوليو 1952 في مصر، هو تحرير السينما من قبضة السراي، التي لم تعد موجودة من الأساس، ولكن الأهم هو إرساء مبدأ أن هزيمة فلسطين كانت إحدى لأسباب الدافعة لقيام ثورة يوليو، وهنا تحولت نظرة السينما لهزيمة فلسطين 180 درجة، لتبدأ الأفلام في الظهور.

البداية في عام 1953، بفيلم أرض الأبطال للمخرج نيازي مصطفى، والذي تدور أحداثه ومعاركه في خضم حرب فلسطين، ولكن الفيلم يشير لنقطة مهمة، أن ذكر حرب فلسطين في السينما المصرية لاحقًا سيتم دائمًا لإدانة النظام الملكي والإقطاعي الذي كان سائدًا في مصر قبل الثورة، وكأنما هو تصفية حسابات سياسية عن طريق السينما، حتى في خارج إطار الأفلام الحربية، فستجد الإشارة واضحة في العديد من الأفلام بعد ذلك أهمها رد قلبي وغروب وشروق وغيرها من الأفلام التي تناولت فترة قبيل ثورة يوليو وقيامها.

بعد يوليو.. السينما الحربية بالأمر المباشر

مع نهاية عام 1956 يتغير كل شيء، وربما لأول يتم إنتاج فيلم حربي بتكليف مباشر من رئيس الجمهورية، فمع نهاية العدوان الثلاثي، يطلب عبدالناصر لقاء فريد شوقي، ويتم اللقاء بالفعل، ليكلف الرئيس فريد شوقي بتقديم فيلم عن كفاح مصر ضد العدوان الثلاثي وعن مدينة بورسعيد الباسلة، ليظهر على شاشات العرض فيلم “بورسعيد – المدينة الباسلة” للمخرج عز الدين ذو الفقار ومن إنتاج فريد شوقي.

ومع تأثر الفيلم بأفلام الفيلم نوار من حيث التصوير والحبكة التي بها الكثير من الغموض والجاسوسية، أكثر من المعارك الحربية، التي كانت كضيف شرف يزيد من إثارة الفيلم، استطاع الفيلم تحقيق نجاح جماهيري كبير، نجاح كان دافع لتقديم تلك النوعية من الأعمال خاصة مع انتشار ما تم تسميته وقتها “أفلام الحرب الروسية”، فظهر فيلم أخر للحديث عن بطولات البحرية المصرية في العدوان الثلاثي وهو فيلم عمالقة البحار عام 1960 للمخرج “السيد بدير”، ولكن الحقيقة أن الفيلم لم يلاقي نجاحًا مثل فيلم بورسعيد وكان المناخ العام المصري قد تغير لتحل الأفلام ذات القيمة العروبية محل الأفلام الحربية المستندة على معارك مصر بمفردها.

شهدت السينما المصرية في الستينات أكبر موجة من موجات الإنتاج والحراك السينمائي الكبير، فدخول الدولة إلى عالم السينما عبر مؤسسة السينما، مثلما كان له العديد من العيوب، كانت له العديد من المزايا وهو تحفيز الوسط السينمائي لإنتاج أفلام ذات طابع تاريخي مهما كانت التكلفة لتشهد الستينات وحدها فيلمان من أهم الأفلام التاريخية الحربية في تاريخ السينما المصرية.

في 1961 تستقبل شاشات السينما المصرية فيلم “وا إسلاماه“، وهذا حدث جلل وقتها، لا بسبب القصة ولا بسبب البعد التاريخي ولا البعد العروبي للحكاية فحسب، ولكن في رأيي السبب الأبرز هو أن الفيلم من إخراج أندرو مارتون، أندرو مارتون أحد نجوم الإخراج السينمائي في هوليوود ومن المخرجين أصحاب الباع الطويل في الأفلام الحربية، يكفي أنه عرض له عام 1962 فيلم “أطول الأيام” أحد أهم وأشهر كلاسيكيات السينما العالمية عن غزو نورماندي أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو فيلم شارك في إخراجه 5 مخرجين كبار من بينهم أندرو مارتون، ويعد أكثر أفلام السينما الحربية دقة وواقعية في سرد وقائع وأحداث أطول أيام التاريخ وهو إنزال الحلفاء على شواطئ نورماندي.

القضية العربية قبلة حياة للأفلام الحربية

لتتعرف السينما المصرية على أحدث تقنيات المشاهد الحربية والمعارك وتحريك المجاميع، ذلك التعرف الذي سيظهر أثره بشكل واضح وأكبر في فيلم أكثر ضخامة بعد ذلك بعامين وهو الناصر صلاح الدين عام 1963، والحقيقة أن الناصر صلاح الدين كان أحدث ما وصلت إليه فنيات وتكنيكيات إخراج المعارك الحربية على شاشة السينما.

إقرأ أيضا

لماذا يحتاج نتنياهو إلى حرب غزة؟

يمكن اعتبار وا إسلاماه ومن بعده الناصر صلاح الدين هما نقطة التحول في طريقة تقديم المعارك في السينما المصرية، قبلها كانت المعارك تقدم بشكل سطحي ورتيب، هل لك أن تتخيل معارك رتيبة! هذا ما كانت تقدمه السينما المصرية معارك ثنائية الأبعاد، أيقاف الممثلين بشكل مسطح تمامًا، وخدع سيئة وانفجارات أو معارك بالسيوف ركيكة وغير جيدة الصنع، ولكن في وا إسلاماه والناصر صلاح الدين، أدرك الجميع أن كلمة معركة أكبر بكثير من مجموعة خيول تسير في مقابل بعضها البعض.

حركة المجاميع في الخلفية، تدريبات المبارزة وتصميم المعارك لتبدو واقعية، أيضًا خلق الدراما وإدماجها داخل المعارك، ولعل من أبرز تلك المعارك معركة احتلال عكا من قبل قوات الفرنجة في فيلم الناصر صلاح الدين، وكيف استطاع يوسف شاهين أن يستغل كل ما في المكان والحدث من تفاصيل لخلق معركة مؤلمة وحقيقية للغاية.

فمشاهد مثل الأمواج التي تضرب الصخور على شاطئ عكا، ومشهد العلم الهاوي، ومشهد معركة سارية العلم، لكها تم تنفيذها بشكل جديد تمامًا على السينما المصرية، شكل يجعل المعارك أكثر دراما وحياة، والحقيقة أنه إن كان للحرب جمال، فهذا الجمال سنراه في السينما، فرغم كل شيء، حرص يوسف شاهين في الناصر صلاح الدين أن تخرج المعارك أيضًا جميلة على المستوى الفني ولعل المثال الأبرز على ذلك مشهد قتل الحجيج في الفيلم بكل ما فيه من جماليات الصورة والتناقض بين ثوب الحج الأبيض واللون الأحمر القاني الذي لطخها، مع استعراض بالكاميرا بين زوايا ضيقة وواسعة، في مشهد شديد العصرية وقتها مشهد لم تكن لتراه إلى في إنتاج هوليوودي ضخم.

اقرأ أيضًا 
آسيا وفيلم الناصر صلاح الدين “جوانب لم تحكيها المواقع عن إفلاس أشهر منتجة سينمائية”

وفجأة ينتهي كل شيء بغته، ويعم الصمت تقطعه أصوات بكاء مكتوم، انتهى عصر كامل بزلزال تاريخي زلزال يدعى نكسة 67، لتختفي المعارك الحربية من شاشة السينما فلا تباهي بهزيمة في السينما، وتحل محلاها المعارك الاجتماعية التي تحاول الوقوف على سبب النكسة.

يتبع