السينما والحرب الأهلية اللبنانية الكارثة بعيون ضحاياها
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
لعل أكثر ما يغلب جبال لبنان تشعبًا هو سياستها، وطوائفها ومشكلتها القائمة كالرماد يخفي تحت آتون يتوهج بالحمم، يهدأ ولكنه أبدًا لا ينطفئ، ذلك الآتون الذي حدا بهذا البلد الرقيق إلى حرب هي الأعنف ربما في التاريخ الحديث للمنطقة العربية، الحرب الأهلية اللبنانية يمكن اعتبارها أعنف حرب أهلية عربية، كيف صاغتها السينما؟
ناجي العلي.. حرب قبل العرض
الحرب الأهلية اللبنانية حدث مفصلي في تاريخ الوطن العربي الحرب التي شهد أخرها الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان وبداية فصيل حزب الله، ثم نهاية الاحتلال في الجنوب اللبناني وانسحابه أمام كاميرات الإعلام في العالم اجمع، شغلت حيذًا كبيرًا في السينما العربية، سواء بعرض القضية والحدث بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، ولعل أبرز الأفلام التي تعرضت للحرب الأهلية اللبنانية هو الفيلم المصري ناجي العلي للمخرج عاطف الطيب.
بعد عامين فقط من نهاية الحرب الأهلية اللبنانية وخمسة أعوام على اغتيال ناجي ظهر فيلم يحمل اسمه ناجي العلي عام 1992، بطولة نور الشريف، الذي تعرض وقتها لحملة صحفية عنيفة وتضيق من حكومة مبارك وقتها، نظرًا لعداء شخصي بين مبارك وناجي بسبب سخرية ناجي من مبارك، هذا ما أشيع، ولكن الحقيقة أن ناجي العلي لم يكن يسخر من مبارك ولكن صب جل سخريته على السادات
خاصة بعد اتفاقيات السلام مع إسرائيل “كامب ديفيد ومعاهدة السلام”، فكيف لفيلم مصري أن يقدم سيرة الرجل؟
شن إبراهيم سعدة رئيس تحرير مؤسسة أخبار اليوم القومية، حربًا شرسة على نور الشريف وأتهمته العديد من الأقلام الصحفية، بالعمالة والخيانة وتقاضي مبلغ 3 مليون دولار من منظمة التحرير الفلسطينية لتنفيذ الفيلم، في حين أن ياسر عرفات ذهب للقاهرة لمنع عرض الفيلم في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي وهنا أخبره مبارك أنه لم يشاهد الفيلم وطلب من السيد أسامة الباز مشاهدة الفيلم، ليشاهده الباز ويؤكد أن الفيلم غير مسيء للقضية الفلسطينية ولا لمصر ليرفض مبارك منع عرض الفيلم ويعرض بالفعل، ليتم تبرأته أخيرًا من تهمة العمالة.
المتهم الضحية
الفيلم نفسه يرصد المرحلة الأهم في حياة ناجي العلي، مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية، ولكن هذا الرصد كان رصدًا سطحيًا، فكان أقصى ما ذهب إليه بشير الديك لعمق المسألة اللبنانية وتأثير الحرب، هو رصد تعاملات جيش الاحتلال مع اللبنانيين وقتها، وعمليات القتل الممنهج، وبعد الخونة، وكذلك انتقد بعض قادة الفصائل الفلسطينية ومنظمة التحرير.
لم يغص الفيلم داخل الأزمة الإنسانية ف لبنان، داخل جوهر الصراع نفسه بين المارون والمقاومة الفلسطينية قبل التحول إلى حرب شاع فيها القتل على الهوية بين مسلم ومسيحي، ليسقط بشير الديك كات الفيلم هذا من حساباته ويركز على جنسية البطل الفلسطينية وعلى ما بعد اجتياح جيش الاحتلال للبنان عام 1982.
ومع اعتبار ناجي العلي فيلمًا ناقش النصف الثاني من الحرب الأهلية اللبنانية -ما بعد اجتياح جيش الاحتلال- ولكنه أيضًا الفيلم المصري الوحيد الذي ألقى نظرة على هذا الصراع، ولعل أهميته تكمن في أهمية الشخصية التي جاءت من خلالها الأحداث، الفلسطيني اللاجئ الذي احتضنته لبنان صبيًا وشابًا، وعاد إليها رجلًا في أعنف مراحلها، حيث كان متهمًا وضحية، الجميع في خلاف معه، والجميع يترقبون ما يرسم، الرجل الذي كان أكثر انحيازًا للشعوب العربية ولا سيما الشعب اللبناني في محنته، كان في نظر بعض الفصائل المتحاربة عدو ومتهم ومطلوب الخلاص منه، مثله مثل العديد من اللبنانيين نفسهم.
بيروت الغربية.. حينما تغوص في مأساة
في عام 1998 وفي قلب الولايات المتحدة الأمريكية، ظهرا طارق وعمر للمرة الأولى للجمهور على شاشة السينما، ليظهر معهم أحد أنضج وأهم التجارب السينمائية التي تناولت الحرب الأهلية اللبنانية من وجهة نظر ضحاياها الأصليين، اللبنانيون نفسهم، فيلم بيروت الغربية والذي عرض عام 1998 من تأليف وإخراج زياد دويري، في رأيي هو الأكثر جمالًا فكل ما تناول الحرب الأهلية اللبنانية من أفلام.
القصية البسيطة حول مراهقان في لبنان في فترات بداية الحرب الأهلية، وقبيل الحرب بساعات صور عمر بكاميراته السينمائية بعض اللقطات ويرغب في تحميضها، فقط لتقوم الحرب وتنقسم بيروت إلي غربية مسلمة يعيش فيها عمر وطارق وقبيل الحرب تأتي الفتاة المسيحية مريم لتجاور طارق، بينما معمل التحميض الذي به الفيلم في بيروت الشرقية التي تقع تحت سيطرة حزب الكتائب المسيحي.
الفيلم الذي استخدم السينما بكل أدواتها بذكاء وإبداع ليوجز في أقل عدد من المشاهد، الحياة العادية ما قبل الحرب، وقدرة الأطفال على تمييز الطائرات الحربية وهي تطير جوًا، قبل أن ينتهي المشهد بتصوير طلقة البداية في الحرب الأهلية اللبنانية وهي مجزرة عين الرمانة حينما فتح مسلحو حزب الكتائب النار على حافلة كانت تقل عدد من القادة في منظمة التحرير الفلسطينية، والمدنيين المسلمين ليقع فيها 27 قتيل، كرد على ما أشيع أنه محاولة اغتيال لقائد حزب الكتائب بيّار الجميّل.
رومانسية الأماني وبشاعة الحقائق
حادثة لم يعد بعدها لبنان كلبنان السابق، وكذلك لم تعد حياة طارق إلى سابق عهدها، وبعيدًا عن الدين والانتماءات السياسية يغوص بيروت الغربية في العمق الإنساني لهذه الحرب، لا يشغل هؤلاء المراهقين شيء سوى توقف حياتهم العادية الطبيعية، وكيف أن الكل بلا استثناء يتأثر ويتغير بهذه الحرب.
طفلان يحاولان إعادة الحياة إلى عاديتها، أو مجرد التظاهر بأن الحياة مازالت عادية رغم كل شيء، ولكنهما يكتشفا أن الأخرين من حولهم يتغيرون، الآباء الجيران، الأصدقاء الكل يتغير، والكل يتساقط، في دراما شاعرية شديدة الجمال والبساطة، ومبتعدة كل البعد عن الحنجورية سواء كانت سياسية أو سينمائية.
مراهقان يريدان بلدًا متحدًا لا لشيء ولكن ليمارسا مراهقتهما كما يريدان، ولكن في تلك الرحلة الخيالية بين أحلام المراهقة ورومانسية المراهقين، وبين بشاعة الحرب الواقعية، يشيخ المراهقان سريعًا، فكلامها يفقد الكثير خلال رحلته، ولعل مشهد الختام الصامت كان أبلغ تعبير عن هذا الفقد وهذا الشيوخ السابق للأوان.
تبقى الحرب الأهلية اللبنانية ملف مفتوح بشكل دائم على كافة الطاولات الفنية والسياسية والثقافية، جرح لم يلتئم إلى الآن، وشبح له ظل يحجب الكثير من فرص الوصول إلى حياة خارج دوائر العنف اللبنانية، ولكن لبنان سياستها أكثر تشعبًا من جبالها، الجبال التي -إلى الآن- لم تكن عائق أمام أي محاولات عسكرية أو عمليات اقتتال داخلي أو حتى اجتياح خارجي، فمن قلوبنا جميعًا سلامًا للبنان.
الكاتب
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال