عن ألحان أبو العلا محمد والنجريدي..قصة “كوكب الشرق” أم كلثوم (37)
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في حلقة جديدة من حلقات سيرة كوكب الشرق ودرة القرن العشرين الآنسة أم كلثوم إبراهيم وفيها نتحدث عن مشوار أم كلثوم مع قالب القصيدة، وسنخصص هذه الحلقة للحديث ألحان الشيخ أبو العلا محمد والدكتور أحمد صبري النجريدي والمرحوم محمد القصبجي على أن نكمل الحديث في جزء ثان في الحلقة القادمة.
كوكب الشرق أم كلثوم وقالب القصيدة: “من الشيخ أبو العلا محمد إلى ثورة رياض السنباطي”.
جاءت أم كلثوم إلى القاهرة في وقت لم يكن جمهور المستمعين فيه على درجة من الثقافة التي تجعلهم يميلون لسماع القصائد الشعرية، وتحدثنا في حلقات سابقة عن دور أم كلثوم الكبير ورغبتها في النهوض بفكر هذا الجمهور، فأم كلثوم هي التي استطاعت بذكائها وموهبتها الكبيرة أن تنقل ذلك الجمهور من هات القزازة وتعالى لاعبني إلى الصب تفضحه عيونه، ومن إرخي الستارة اللي في ريحنا إلى أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه، لذلك إذا نظرنا إلى مشوار أم كلثوم مع قالب القصيدة سنجد أنه مشوار بدأ بمعافرة وحراك شديدين قصدت أم كلثوم فيه فكرة التغلب على الذوق الفاسد الذي أصاب دولة الفن في مصر في أغلب أركانها، وإذا كان الشعر هو أبلغ ما وصلت إليه ألفاظ اللغة العربية فإنه يحسب لأم كلثوم الفضل الكبير في أنها جعلت أفراد الشعب العادي يتغني بالأشعار بل ويفهم مضمونها، ذلك أن أم كلثوم قالت في تصريحات كثيرة أنها كانت تؤدي القصيدة في المرة الأولى بطريقة تجعل المستمع يفهم الكلمات والمعاني وسير اللحن دون ارتجالات أو تفاريد، فإذا ما تأكدت أن الجمهور قد فهم القصيدة ومعانيها واحس باللحن فإنها تنطلق بعد ذلك في التفاريد والارتجالات.
غنت كوكب الشرق العديد من القصائد لكبار الشعراء العرب، فغنت من شعر أبي فراس الحمداني وعمر بن الفارض وعبد الله الشبراوي وابن النبيه المصري وغيرهم، إلا أن أم كلثوم كانت صاحبة ذوق حتى في اختيار القصائد المغناة بل في الأبيات المختارة التي ستغنيها، فمثلا قصيدة سلو قلبي غداة سلا وتابا من شعر أمير الشعراء شوقي بك، هي من ديوان مؤلف من واحد وسبعين بيتا، اختارت أم كلثوم منها واحدا وعشرين بيتا للغناء، الأبيات الستة الأولى في الغزل، والخمسة التالية في الحكمة، أما باقي الأبيات ففي مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحال نفسه في قصيدة نهج البردة وهي من شعر شوقي بك أيضا، وهي من ديوان يتضمن مائة وتسعين بيتا، اختارت أم كلثوم ثلاثين بيتا منها، ستة في الغزل، وثلاثة في الحكمة، وخمسة في التضرع والتعبد، واثنا عشر في مدح رسول الله، وأربعة في الدعاء، كذلك قصيدة إلى عرفات الله التي اختارت أم كلثم خمسة وعشرين بيتا منها من أصل ستين، والأمثلة على ذلك كثيرة، فغناء أم كلثوم لهذا القالب لم يكن عبثا، بل كان محكوما في الوقت نفسه وبجانب موهبتها الكبيرة في الغناء بموهبتها في اختيار ما يتغنى به من الابيات ولعل ذلك راجع إلى ثقافتها ومعرفتها بفن الشعر التي يعود الفضل الأول في تنميتها إلى المرحوم أحمد رامي الذي ساعدها كثيرا في هذا الجانب وأطلعها على دواوين كبار الشعراء وأمهات الكتب لدرجة جعلتها تفكر كثيرا في كتابة الشعر وهو ما تحدثنا عنه في علاقة رامي بأم كلثوم.
أول عهد أم كلثوم بالقصيدة:
كان أول عهد أم كلثوم بالقصيدة في طفولتها، حيث غنت عددا من القصائد التي كانت تستمع إليها عبر فونوغراف العمدة، كذلك حفظت عن والدها العديد من القصائد، على أن أول نتاج حقيقي لأم كلثوم في ميدان هذا القالب كان بالتعاون مع الشيخ أبو العلا محمد الذي غنت أم كلثوم من ألحانه العديد من القصائد منها، الصب تفضحه عيونه وأقصر فؤادي ويا آسي الحي هل فتشت في كبدي، وقل للبخيلة بالسلام تورعا وامانا أيها القمر المطل وأكذب نفسي عنك في كل ما أرى، على أن هذه القصائد لم تكن ملحنة في الأصل لصوت أم كلثوم، ولكنها كانت ألحانا للشيخ أبو العلا وغناها هو بنفسه وعنه أخذتها أم كلثوم وسجلتها بصوتها، والحق أن السنوات القلائل التي رافقت فيها أم كلثوم الشيخ أبو العلا كانت ذات أثر كبير صاحب أم كلثوم لنهاية عمرها وانطبع على غنائها إلى آخر حفلاتها.
إقرأ أيضًا..محمود ياسين .. العملاق الذي تنكرونه
ويقول المؤرخ الموسيقي كمال النجمي:
الشيخ أبو العلا محمد هو أول من أدرك من ملحني العقدين الأول والثاني من القرن العشرين أهمية التوافق بين الكلام والألحان، مع اهتمامه في الوقت نفسه باستعراض جمال الصوت وقوته وانضباطه في الأداء، وقد تجلى ذلك كله في القصائد الأولى التي غنتها أم كلثوم من تلحينه مثل الصب تفضحه عيونه، وقصيدة وحقك أنت المنى والطلب، وقصيدة أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه، وقد استطاع أبو العلا وأم كلثوم معا أن يردا الغناء العربي إلى طريقته الحضارية التي كانت له قبل سقوط بغداد في أيدي التتار ثم سقوط غرناطه وضياع الأندلس، وكان انطلاق حنجرة أم كلثوم بهذه الطريقة في غناء القصائد في العشرينات ثورة غنائية قائمة على بعث الطريقة العربية في الغناء بدلا من الاقتباس أو التزود من طرق الغناء الاوروبي، والعجيب أن الشيخ أبو العلا محمد ترك هذا الأثر الفني العظيم مع أنه لم يعايش أم كلثوم في القاهرة سوى خمس سنوات.
محاولات النجريدي والقصبجي في تلحين القصيدة:
بعد وفاة الشيخ أبو العلا محمد لم يتبق لأم كلثوم سوى الدكتور أحمد صبري النجريدي والمرحوم محمد القصبجي، فحاول الطبيب الهاوي أن ينحو منحى الشيخ أبو العلا محمد في تلحين القصائد وبالفعل قدم لأم كلثوم ألحانا لقصائد شابهت إلى حد كبير ألحان المرحوم الشيخ أبو العلا محمد منها لحن قصيدة كم بعثنا مع النسيم سلاما، ولي لذة في ذلتي وخضوعي ومالي فتنت بلحظك الفتاك، والحقيقة أنها كانت ألحانا ناجحة لم تشعر أم كلثوم معها بفوارق كثيرة عن الألحان التي اعتادت عليها مع الشيخ أبو العلا، أما القصبجي فحاول أن يستفيد بنجاحه في ميداني المونولوج والطقطوقة وينقله لميدان القصيدة إلا أنه لم يوفق، والحقيقة أن الحكم على ألحان القصبجي في ميدان القصيدة بهذه الطريقة أراه مجحفا بعض الشيء، فما قدمه القصبجي من ألحان في ميدان هذا القالب لم يختلف كثيرا عما قدمه النجريدي أسوة بالمرحوم الشيخ أبو العلا محمد، وعن ألحان القصبجي يقول كمال النجمي: لم يوفق القصبجي فيما حاول تلحينه من القصائد، ولم يتيسر له إلا القليل، فقصائده مثل يا غائبا عن عيوني ويا نسيم الفجر ريان الندى وأيها الفلك على وشك الرحيل، لم تكن إلا تقطيعات لحنية مصحوبة بنقرات على العود تصاحبها أصوات آلات موسيقية أخرى قليلة تعزف على استحياء، بينما يجهد صوت أم كلثوم لتنفيذ سيناريو التعبير الذي رسمه القصبجي كانه دوائر هندسية ناضجة.
ألحان القصبجي لأم كلثوم في ميدان القصيدة:
لم يلحن القصبجي لأم كلثوم إلا سبع قصائد هي:
1- إن حالي في هواها عجب
2- انظري
3- إن يغب عن مصر سعد
4- أيقظت فيّ عواطفي
5- أيها الفلك على وشك الرحيل
6- يا غائبا عن عيوني
7- يا فؤادي غن ألحان الوفاء.
وفضلا عن ذلك، فقد اشترك المرحوم محمد القصبجي مع الموسيقار الكبير رياض السنباطي في تلحين قصائد أوبرا عايدة، وعلى الرغم من جودة ألحانهما معا إلا أن الجمهور لم يستسغ هذا اللون من الغناء الأوبرالي فكانت عايدة هي المحاولة الأولى ولم تكررها أم كلثوم في غنائها بعد ذلك.
وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة، على أن نكمل مشوار أم كلثوم مع قالب القصيدة في الحلقة القادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال