الشيخ سلامة حجازي زعيم المسرح العربي ورائده (3) | من الشعر إلى اسكندر فرح
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
مع بداية الفصل الثالث، أقف مندهشا أمام عزيمة ذلك الفنان الخالد الشيخ سلامة حجازي فبعد أن ذاق مرارة الأيام في الفترة التي قضاها برشيد(بلدة والده)، وصار وحيدا لا زوجة له ولا ولد، لم يكن ليعش دور المنكسر المهزوم.
شوقي يرثي سلامة حجازي
يا ثرى النيل، في نواحيك طير… كان دنيا، وكان فرحة جيل
لم يزل ينزل الخــمائـل حتــى… حل في ربوة على سلسبيل
أقعد الروض في الحياة مليا…. وأقام الربى بسحر الهديل
يا لواء الغناء في دولة الفن.. إليك اتجهت بالإكليل
عبقريا كأنه زنبق الخلد…. على فرعه السري الأسيل
أين من مسمع الزمان أغاني… عليهن روعة التمثيل؟
أين صوت كأنه رنة البلبل…. في الناعم الوريف الظليل
فيه من نغمة المزامير معنى…. وعليه قداسة الترتيل
كلما رن في المسارح إن كنت…انثنى بالهتاف والتهليل
كعتاب الحبيب في أذن الصب.. وهمس النديم حول الشمول
اقرأ أيضًا
الشيخ سلامة حجازي زعيم المسرح العربي (1) | كفاح طفل مغدور به
تلك كانت بعض أبيات من القصيدة العصماء التي كتبها أمير الشعراء أحمد بك شوقي، وأنشدت في الحفلة التذكارية التي أقيمت تمجيدا لذكرى الشيخ سلامة حجازي في السابع من ديسمبر عام 1931م بدار الأوبرا الملكية.
شخصية سلامة حجازي النفسية والفنية
تأثر كثيرا وبات في حال تدمع له العيون، إلا أنه غالب ذلك، فشد الرحال مجددا عائدا إلى الإسكندرية، مصرا على إتمام المسيرة التي ظل التاريخ شاهدا عليها إلى وقتنا هذا.
طور الشيخ سلامة فنه بطريقة توافقت مع مزاج جيل عصره ومع ميول المستمعين آنذاك الذين ملوا القديم المتراكم، فازدادت شعبيته أكثر وأكثر وبدأت الحياة تبتسم له من جديد.
الشيخ سلامة حجازي والمسرح
في منتصف القرن التاسع عشر بدأت مصر في الأخذ بأسباب نهضة المسرح، فأمر الخديوي ببناء دار الأوبرا، وأنشيء المسرح الهزلي الفرنسي، وافتتح بحديقة الأزبكية عام 1868م، كذلك أنشيء المسرح الغنائي عام 1869م، على يد يعقوب بن صنوع، وقد كان التمثيل في ذلك الوقت عبارة عن نوع بسيط ومهذب من الأرجوزات وخيال الظل، وقد أضاف ابن صنوع مسرحيات صغيرة تتخللها مقطوعات شعرية ملحنة أوهزليات قصيرة ممزوجة بالكوميديا، روعي فيها الجمع بين العناصر المصرية والأوروبية.
اقرأ أيضًا
الشيخ سلامة حجازي (2) | على أول درجات سلم المجد
إلا أن النجاح لم يكن حليفا لهذه الفرقة، فأغلق مسرحها بعد عامين فقط من إنشائه، في حين ظهر نفس اللون من الفن في الإسكندرية على يد يوسف الخياط، بيد أن رواياته كانت روايات ساذجة مملة، كلها تتمحور حول مأساة تبدأ بالحب ثم تختتم بالفجيعة والإحباط، وهو ما جعل الجمهور ينظر للتمثيل حينئذ على أنه بدعة تتنافى وتعاليم الدين وتتخطى مباديء الخلق.
ظل الحال كذلك حتى وفدت إلى مصر أول فرقة من الشام، وهي فرقة النقاش (سليم النقاش)، فبدأت بعرض حفلاتها، فكانت أولى تلك الحفلات عام 1876م على مسرح زيزينيا بالإسكندرية، كل ذلك والشيخ سلامة حجازي بعيدا كل البعد عن هذا الفن الذي يراه الناس بدعة يجب الابتعاد عنها، حتى جاء يوم زفاف أخته شفيقة على محمد السيسي، وكان من ضمن الحضور بعض الممثلين بفرقتي إسحق والخياط الذين استمعوا للشيخ سلامة وهو يغني قصيدة سفر اللثام على دياجي الحندس، فانبهروا بصوته وحاولوا ضمه إليهم، إلا أنه رفض وبشده، وظل متمسكا بفنه وبطريقه وإحياء لياليه.
إلا أن الأمر لم يكن ليمر هكذا على الخياط الذي دبر له حيلة كانت سببا في اقتحام الشيخ سلامة لغمار المسرح، فتعاقد معه على القيام بحفلة غناء أسبوعية على مسرحه ليطرب جمهوره بين فصول رواياته، وبالفعل نجحت هذه الحيلة في ضم الشيخ سلامة إلى فرقة الخياط دون أن يدري أنه بالفعل قد اعتلى المسرح ليغني وكان ذلك في بدايات العام 1884م.
تضافرت كل الظروف والوقائع لإدخال الشيخ سلامة حجازي في مجال المسرح، فبعد أن ذاع صيته في الأوساط الحاكمة والأسر الثرية تعرف على المرحوم عبده الحامولي الذي دعاه ليشترك معه في إحياء زواج إحدى الكريمات من العائلة الخيديوية وكان من ضمن المدعوين سليمان الحداد وسليمان القرداحي لافتتاح الحفل بتمثيل رواية جديدة، فأعجب الشيخ سلامة حجازي بالتمثيل وأيقن أن هذا الفن لا يتنافى مع الآداب أو المباديء أو الدين في شيء، فاستهوى تجربته وبات يفكر في احترافه إلى أن عرض عليه الحداد والقرداحي احتراف التمثيل فأعطاهما موافقته المبدأية وأسرع لاستشارة الحامولي وعثمان.
رأى الحامولي أن هذا الفن يتناسب مع صوت الشيخ سلامة حجازي وشخصيته، فوافق وطلب منه الانضمام إليه فوافق سلامة، وبالفعل انطلق مسافرا إلى القاهرة وانضم للحداد والقرداحي وكان ذلك في الفترة من 1885م وحتى 1889م بمرتب عشرين جنيها شهريا، وحينئذ انتهزت الفرقة السورية فرصة انضمام الشيخ سلامة حجازي إليها بصفته المصرية وطالبت الحكومة المصرية بالسماح لها بتقديم رواية “مي وهوراس” على مسرح دار الأوبرا الخيديوية باعتبار الشيخ شفيعا لها أمام الحكومة، فوافقت الحكومة وقدمت الرواية فنجحت نجاحا مبهرا، حتى أن عرضها ظل يقدم لأكثر من ثلاثين ليلة متصلة.
كان نجاح رواية “مي وهوراس” سببا في مضاعفة الجوقة لمجهودها لإخراج روايات عديدة من النوع الغنائي الذي نقله الشيخ سلامة حجازي للمسرح، وبالفعل قدمت روايات عديدة كرواية عايدة ورواية هارون الرشيد وغيرها،وظل الحال هكذا لمدة أربع سنوات كاملة شعر فيها الشيخ سلامة حجازي بمنزلته العظيمة عند الجمهور الذي تضاعف خلال تلك الفترة، فأحب أن يضع نفسه في مكانة تليق به، فطلب من القرداحي أن يحتل دور البطولة في بعض الروايات فلم يوافقه القرداحي على طلبه وكان ذلك سببا في انفصاله عنهما.
أثر الحب في حياة الشيخ سلامة حجازي
بعد احتراف الشيخ سلامة حجازي التمثيل بعام واحد نزع زيه العربي (العمة والجلباب أو القفطان) واستبدله بالزي الأفرنجي، وراح الناس يختلفون حول هذا التصرف فمنهم من وافقه فرأى أن ذلك تطورا طبيعا لما أصبح عليه حال الشيخ سلامة حجازي من شهرة، وأنكر عليه البعض الآخر ذلك، إلا أن الجميع لم يكن يعلم أن ذلك كان بسبب الحب، فقد أحب الشيخ سلامة حجازي فتاة اسمها خديجة وكانت من بيت حسب ونسب ومجد فهي ابنة طلعت باشا، فرأى أن العمامة لا يمكن ان تروق في نظرها فقرر أن يغير زيه لأجلها، وتوّج هذا الحب في النهاية بالزواج، وقد كان لهذا الحب أثر كبير في حياة الشيخ سلامة الفنية فأخرج بديع الألحان والروايات مثل أنيس الجليس وأبي الحسن وعلي نور الدين وخليفة الصياد، ثم لحن رواية مجنون ليلى التي مثلت ثورة في عالم الفن لما تضمنته من ألحان غاية في الكمال والجمال مثل دنا الحبيب القاسي، فدنا السروري فؤادي.
الشيخ سلامة حجازي واسكندر فرح
تطور الإخراج المسرحي تطورا عظيما بفضل جهود الشيخ سلامة حجازي خلال الأعوام الأربعة التي قضاها مع فرقة القرداحي، فلما انفصل عنها انضم للفرقة الناشئة تحت إدارة اسكندر فرح وهنا عمد الشيخ سلامة حجازي إلى إظهار أفكاره الجديدة، فبدأ يغني في افتتاح الروايات وختامها المارشات والسلامات الخديوية، كذلك ألقى النوع المهذب من المونولوجات الحماسية المنطوية على المباديء والأخلاق الحميدة بين فصول الروايات، كذلك اتجه إلى توزيع ألحان الرواية على كثير من أبطالها وإعطاء جزءا منها للجوقة، فأعجب اسكندر به وبفنه وفكره.
افتتح اسكندر فرح مسرحه بشارع عبد العزيز، واتفق مع الشيخ سلامة حجازى على مرتب شهري ثلاثين جنيها مصريا، فضلا عن دخل ليلة شهريا لحسابه الخاص، فتحمس الشيخ سلامة، وعملا معا بجد وإخلاص فاخرجوا رويات عديدة كرواية الطواف حول الأرض، ورواية مغائر الجن، ورواية القضاء والقدر وغيرها، وقد مثلت تلك الرويات نهضة وفتحا جديدا للمسرح الغنائي.
أعجب الأديب المسرحي نجيب الحداد بفن الشيخ سلامة وجهوده مع اسكندر، فقدم له رواياته ليمثلها وبالفعل مثلت الفرقة منها: شهداء الغرام، وصلاح الدين الأيوبي، وغيرها، وفي إحدى الروايات ثار خلاف بين سلامة حجازي وبين موزع الأدوار فتدخل نجيب الحداد وسحب الرواية، فظن قيصر فرح شقيق اسكندر أن الشيخ سلامة قد اتفق مع الحداد ضد الفرقة فدخل معه في مناقشة حادة وأهانه فيها فانفصل الشيخ سلامة نهائيا عن الفرقة.
لتبدأ رحلة جديدة للشيخ سلامة حجازى سار انتهت باعتلائه زعامة المسرح، وهذا ما سنتحدث عنه بالتفصيل في الفصل القادم.
دمتم في سعادة وسرور..
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال