قصة الموسيقى في مصر 2
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
مثّل مطلع القرن العشرين مناخاً خصبا لازدهار وتطور الموسيقى والغناء في مصر خصوصاً بعد ظهور وانتشار شركات الاسطوانات، لتدخل مصر مرحلة جديدة من مراحل التطور الموسيقي، فبعد أن كان سماع الغناء والموسيقى قاصرا على حضور الحفلات والسهرات والمناسبات أصبح من الممكن الاستمتاع به في أي وقت وذلك من خلال أجهزة الفونوغراف، وقد شهدت تلك المرحلة صعود الكثير من المطربين والمطربات الذين تعاقدت معهم شركات الاسطوانات قبل الحرب العالمية الأولى أمثال الشيخ سلامة حجازي والشيخ يوسف المنيلاوي وعبد الحي أفندي حلمي خال المطرب الكبير صالح عبد الحي والسيدة منيرة المهدية والشيخ سيد الصفتي وغيرهم، إلا أن حال الموسيقى لم يكن قد تطور أو اختلف كثيراً عما كان عليه في نهايات القرن التاسع عشر.
في تلك المرحلة أولى الموسيقيون اهتماما بفن الدور الذي طوره المرحوم الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب وزميليه الحامولي ومحمد عثمان، وأدخلوا عليه المزيد من اللمسات الجمالية التي واكبت تلك الفترة وعلى رأسهم فنان الشعب الشيخ سيد درويش الذي تزعم المسرح الغنائي بعد الشيخ سلامة حجازي، فجعل الموسيقى آداة للتعبير والتصوير وبذلك اتخذ قالب الدور شكلا جديدا اكثر مرونة وجمالا، وعلى نهج الشيخ سيد درويش سار العديد من ملحني تلك الفترة أمثال داوود حسني وكامل الخلعي والشيخ زكريا أحمد.
وفي نهاية العقد الأول من القرن العشرين ظهرت (الطقطوقة) التي فرضت نفسها على كل ألوان الغناء حينئذ لسهولتها وقيامها على لحن وايقاع واحد لكل أغصانها فتفاعل الجمهور معها وأحبها وبات يرددها، وذلك قبل أن يطورها الشيخ زكريا أحمد في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، وقد تزامن مع ظهور الطقطوقة حركة بعث كبيرة للغناء التراثي المصري قادها الشيخ سيد درويش بفنه الذي استساغه المصرييون بجميع أطيافهم وعلى أثرها تطور الغناء المصري تطورا لم يشهده من قبل سواء على مجال الغناء الفردي أو الغناء المسرحي.
العشرينيات وشروق شمس جديدة
مع حلول العشرينيات أشرقت على مصر شمس جديدة غيرت ملامح الفن الموسيقي وقلبت موازين الغناء رأساً على عقب، حيث تلك الفتاة العشرينية التي أتت من طماي الزهايرة مركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية لتبهر القاصي والداني وليعم صوتها أرجاء المحروسة، فملأت الدنيا بفنها وشغلت الناس بإعجازها، إنها أم كلثوم.
تركت أم كلثوم قريتها واستقرت بالقاهرة عام 1923م لتلتقي بصديق والدها الشيخ أبو العلا محمد والذي كان قد سمعها من قبل حين كانت تنشد القصائد الدينية في الموالد مع والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي، فغنت من ألحانه العديد من القصائد نذكر منها: الصب تفضحه عيونه، وحقك انت المنى والطلب، أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه، أقصر فؤادي، يا آسي الحي هل فتشت في كبدي.
وفي السنة التالية تعرفت أم كلثوم على شاعر الشباب أحمد رامي وكذلك الطبيب الملحن أحمد صبري النجريدي ابن مدينة طنطا فلحن لها أكثر من أربع عشرة أغنية معظمها من كلمات رامي، نذكر منها:
خايف يكون حبك فيا شفقة عليا، أنا على كيفك، الفل والياسمين والورد، يا ستي ليه المكايدة
حققت أم كلثوم شهرة واسعة في وقت قصير وتربعت على عرش الغناء في مصر، فغنت الدور والطقطوقة والمونولوج والقصيدة وأبدعت في كل لون قدمته، بل إنني أرى أن قوالب الغناء قد مزجت بروحها ليخرج لنا نوع خاص من الفن أسميته (الفن الكلثومي)
خلال تلك الفترة تعاونت أم كلثوم مع الملحن والعواد المحنك محمد القصبجي، فلحن لها أكثر من قطعة نذكر منها: قال إيه حلف ما يكلمنيش 1924م، البعد طال 1926م، إن كنت أسامح 1928م.
وبدخول الثلاثينيات اتسعت رقعة ملحني أم كلثوم فبدأ داوود حسني التلحين لها عام 1930م، فلحن لها عشرة أدوار وطقطوقة واحدة على مقام الحجاز كار (جنة نعيمي)، وفي العام 1931م (عام الكرم والجود كما أسميه) بدأ الشيخ زكريا أحمد التلحين لها مطوراً قالب الطقطوقة كما ذكرنا في الفصل الاول من الموضوع وكانت طقطوقة (اللي حبك يا هناه) هي أول طقطوقة مطورة تغنيها الآنسة أم كلثوم من ألحان الشيخ زكريا أحمد.
وفي عام 1936م تعرفت أم كلثوم على رفيقها الثالث، المرحوم رياض السنباطي الذي صاحبها إلى نهاية مسيرتها، فغنت أول ألحانه لها (النوم يداعب عيون حبيبي)، وفيما بعد تعاونت أم كلثوم مع العديد من الملحنين كالأستاذ محمد عبد الوهاب والشيخ سيد مكاوي وبليغ حمدي والموجي .
وظلت أم كلثوم متربعة على عرش الغناء في مصر على مدار نصف قرن أتحفتنا فيه بروائعها التي شكلت على مر السنين فنا ذو طابع خاص ينتسب إليها.
تزامن مع ظهور الآنسة أم كلثوم صعود الفتى البارع النابغة محمد عبد الوهاب الذي بدأ حياته الفنية سرا عام 1917م، وذلك بفرقة فوزي الجزايرلي التي كانت تعمل على مسرح الكلوب المصري بحي الحسين، فكان يغني خلال فترات الاستراحة بين فصول الروايات القصائد التي حفظها ولكن تحت اسم مستعار هو (محمد البغدادي)، في تلك الفترة اعتمد عبد الوهاب على محاكاة وتقليد من سبقوه ممن استهوته أصواتهم كالشيخ سلامة حجازي وعبد الحي أفندي حلمي، ويمكن ملاحظة ذلك جيدا في تسجيلي (ويلاه ما حيلتي ويلاه ما عملي) و (أتيت فألفيتها ساهرة)، وفي عام 1921م اختاره سيد درويش ليقوم بدور (زعبلة) في أوبريت شهرزاد بدلا عنه، فتفتحت له آفاق جديدة من خلال عمله في فرقة سيد درويش وأتيحت له الفرصة لينهل من علمه وفنه.
بدأ عبد الوهاب دراسة الموسيقى عام 1924م، فأخذ عن الشيخ درويش الحريري ومحمود رحمي علم الموشحات والإيقاعات وتولى الأستاذ محمد القصبجي مهمة تعليمه العود، واستمر عبد الوهاب في إثقال علمه وموهبته إلى أن أصبح نابغة عصره فكان أول تعاون له مع السيدة منيرة المهدية حين عهدت إليه باستكمال تلحين رواية كليوباترا ومارك أنطونيو التي لحن فصلها الأول الشيخ سيد درويش، وفيها قام عبد الوهاب بدور أنطونيو أمام منيرة المهدية.
وتلك كانت بداية موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي لا يستطيع أحد أن ينكر دوره الكبير في تطوير الموسيقى والغناء في مصر، فقد طور عبد الوهاب أسلوب أداء القصائد والأغاني الطويلة، كذلك أدخل الكثير من الألحان والأساليب الغربية على ألحانة بطريقة لاقت القبول من كل من سمعها، ولم يتوقف عطاء عبد الوهاب عند هذا فقد أبدع في قالب الموال فأضاف الكثير من المواويل العاطفية محكمة الصياغة والبناء، كذلك اهتم بقالب المونولوج فنسج له ثوبا جديدا وطوره بما يناسب عصره ويبدو ذلك واضحا جليا في مونولوج الليل يطول عليّ، ومونولوج في الليل لما خلي.
وعلى الرغم من تربع كوكب الشرق أم كلثوم والنابغة محمد عبد الوهاب على عرش الغناء والطرب في تلك الفترة إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور العديد من المطربين والمطربات الذين سطروا تاريخا عظيما رسم ملامح الفن الموسيقي بمصر
كالفنان الكبير صالح عبد الحي الذي غنى قرابة النصف قرن وأطلق عليه فارس الغناء التقليدي، فقد كان الحارس الأمين دائما على الفن النهضوي وظل يقدمه حتى وفاته في بداية الستينات، ولعل ذلك أهم ما ميز المطرب القدير صالح عبد الحي فقد كان حلقة الوصل الاخيرة بين فن من سبقوه كالحامولي وعثمان وحجازي ومن أتوا بعده كأم كلثوم وعبد الوهاب، وقد امتلك صالح صوتا قويا متينا مطواعا حتى يذكر أنه كان يغني بدون مكبرات الصوت في السرادقات المفتوحة والمغلقة وذلك قبل افتتاح الإذاعة عام 1934م.
وها هي السيدة فتحية أحمد التي ولدت في ذات العام الذي ولدت فيه أم كلثوم 1898م، وتوفيت كذلك في ذات العام الذي رحلت فيه ام كلثوم 1975م، وكانت تلقب بمطربة القطرين نظرا لكثرة أسفارها بين مصر وبلاد العراق والشام.
غنت فتحية أحمد من ألحان من عاصروها من كبار الملحنين كالشيخ أبو العلا محمد والشيخ سيد درويش والأستاذ رياض السنباطي والشيخ زكريا أحمد والمرحوم داوود حسني والأستاذ محمد القصبجي وأبدعت في كل قالب غنته، وقد وصفها نقاد زمانها بالمبدعة عند مقارنتها بالآنسة أم كلثوم التي وصفت حينها بالمطربة المؤدية فقط، فها هو كمال النجمي يقول عنها: كان الكثيرون يرون أن فتحية أحمد هي صاحبة الصوت الأول قبل منيرة المهدية وقبل أم كلثوم، لأن صوت أم كلثوم في ذلك الوقت لم يكن قد اكتمل نضجه، لكن النضج السريع لصوت أم كلثوم دفع بفتحية أحمد إلى الخلف، فأصبحت المطربة الثانية، واستراحت هي في الظل، وعاشت شبه متقاعدة.
توالت السنوات في النصف الأول من هذا القرن وظهر العديد من المطربين والمطربات الذين امتلكوا الموهبة الحقيقة التي أهلتهم لحجز مقاعدهم في صفوف مطربي هذا القرن كالفنانة أسمهان والفنانة نجاة على والفنانة ليلى مراد والأستاذ عباس البليدي والأستاذ محمد فوزي والفنانة رجاء عبده وغيرهم.
ومن وجهة نظري كأحد أنصار الموسيقى الكلاسيكية، أرى أنه بحلول العقد السادس من القرن العشرين تكون الصفحات الأخيرة من هذا الفن قد سطرت، فما ظهر بعد ذلك لم يكن ليقارن أبداً بما خرج من رحم النصف الأول من هذا القرن سواء من ناحية التأليف الموسيقي أو الغناء أو حتى الكتابة.
كان ذلك ملخصا سريعا شديد الاختصار لما مرت به موسيقانا الكلاسيكية منذ عهد محمد علي باشا وحتى ستينيات القرن العشرين، يستطيع القاريء من خلاله أن يرسم في ذهنه ملامح هذا الفن في تلك الفترة، على أن نلتقي في مقالات قادمة أكثر تفصيلا إن شاء الله، دمتم في سعادة و سرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
إقرأ أيضا
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال