الصوم في المسيحية.. بين الطقوس الروحية والتقاليد الكنسية
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
الصوم في المسيحية بالنسبة لأتباعها من أسمى الشعائر الروحية التي تحمل في طياتها معانٍ عميقة؛ تتجاوز مجرد الامتناع عن الطعام والشراب إلى تجربة روحية حية تنطوي على التوبة، النقاوة، والتكريس لله. في هذا السياق، لا يُعد الصوم مجرد فريضة دينية، بل هو علامة على علاقة الإنسان بربُه، يُعبر من خلاله عن خضوعه وفق تقاليد كنسية.
الصوم في المسيحية
مع بداية صوم الميلاد، فإن الصوم في المسيحية، ليس محددًا بوقت معين، بل هو أمر يترك للضمير الشخصي للمؤمن. وتحدد الكنيسة أوقاتًا معينة للصوم وفقًا لاحتياجات روحية خاصة أو استعداد لخدمة المسيح والإنجيل.
في الكتاب المقدس، نجد مثالًا على ذلك في سفر أعمال الرسل (14-23)، حيث مارس “بولس” و”برنابا” الصوم من أجل اتخاذ قرارات مهمة فيما يتعلق بخدمة المسيح والإنجيل.
“وَانْتَخَبَا لَهُمْ قُسُوسًا فِي كُلِّ كَنِيسَةٍ، ثُمَّ صَلَّيَا بِأَصْوَامٍ وَاسْتَوْدَعَاهُمْ لِلرَّبِّ الَّذِي كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِهِ“.
على الرغم من ذلك، هناك تقاليد مسيحية تتبع تحديدًا زمنيًا للصوم، مثل صوم الأربعين يومًا الذي يسبق عيد الفصح، ولكن هذا التحديد الزمني لا يستند إلى تعليم كتابي محدد، بل هو جزء من تقليد كنسي هدفه تحضير المؤمنين روحيًا وعمليًا للاحتفال بذكرى موت المسيح وقيامته ـ على سبيل المثال ـ وبالتالي، يعتبر الصوم عملًا إيمانيًا يسبق المناسبات المقدسة، وهو لا يقتصر فقط على التقيد بوقت معين، بل يرتبط برغبة المؤمن في التوبة والتقرب إلى ربُه.
الصوم وفق تعاليم الكنيسة
الصوم في المسيحية ووفق تعاليم الكنيسة مرَّ بمراحل عديدة وتطور تطورًا ملحوظًا مع الزمن. في البداية، تقول الرواية إن المسيح نفسه صام أربعين يومًا قبل بدء رسالته، وكان يصوم يوم الكفارة وفقًا للشريعة اليهودية. لكنه لم يضع قوانين محددة للصوم، بل ترك الأمر لتقنين الكنيسة حسب متطلبات الأزمان والظروف.
بعد قرن ونصف تقريبًا من وفاة القديس بولس (ثاني أهم شخصية في المسيحية بعد يسوع) بدأ الصوم يخضع لتقنين أكثر وضوحًا، حيث كان يتم بشكل فردي وفقًا لضمير المؤمن وتقواه. في تلك الفترة، كانت الكنيسة تحث المؤمنين على الصوم لمقاومة الإغراءات المادية والجنسية، مع التأكيد على أن الصوم يجب أن يؤثر في النفس ولا يقتصر على المظاهر الخارجية فقط.
أما الكنيسة الأرثوذكسية فتنظُر إلى الصوم باعتباره رحلة روحية تهدف إلى تنقية الجسد والروح، إذ يمتد الصوم الأرثوذكسي لنحو سبعة أشهر سنويًا، وفي هذا السياق يرى البابا شنودة الثالث (1923 – 2012) أن الصوم في العهدين القديم والجديد ليس مجرد رمز، بل وصية إلهية.
الصوم في العهد القديم وفق تصور الأرثوذكس
في العهد القديم، كان الصوم ركنًا هامًا من حياة الشعب اليهودي، وكان يُعتبر علامة على التوبة والرجوع إلى الله. كان الصوم يختلف عن عبادات أخرى من حيث ارتباطه بفترات وأوقات محددة في السنة، حيث حدد الرب أصوامًا ثابتة لشعبه مثل صوم الشهر الرابع، صوم الشهر الخامس، صوم السابع، وصوم العاشر، وذلك كما ورد في سفر زكريا .
“هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنَّ صَوْمَ الشَّهْرِ الرَّابِعِ وَصَوْمَ الْخَامِسِ وَصَوْمَ السَّابعِ وَصَوْمَ الْعَاشِرِ يَكُونُ لِبَيْتِ يَهُوذَا ابْتِهَاجًا وَفَرَحًا وَأَعْيَادًا طَيِّبَةً. فَأَحِبُّوا الْحَقَّ وَالسَّلاَمَ” (زك 8-19).
والحكمة من تحديد مواعيد الصوم كانت في تنظيم العبادة الجماعية، وبذلك يصبح الصوم حدثًا ذا طابع جماعي يعزز وحدة الشعب ويجعلهم يركزون في علاقة مع الله.
بالإضافة إلى ذلك، وردت عدة مناسبات أخرى للصوم في العهد القديم، مثل صوم “أهل نينوى” في زمن “يونان” (يونان 3)، وصوم الشعب أيام “عزرا” و”نحميا” (نحميا 9: 1-2) (عزرا 8: 21-23).
كما نجد في سفر يوئيل (يوئيل 2: 12-17) دعوة قوية للصوم كعلامة على التوبة والرجوع إلى الله، إذ يُشدد على أن الصوم لا يجب أن يكون مجرد طقس خارجي بل هو حالة قلبية حقيقية من التذلل والتوبة.
الصوم في العهد الجديد وفق تصور الأرثوذكس
أما في العهد الجديد، فقد أكدت حياة السيد المسيح على أهمية الصوم كأداة روحية للتقرب إلى الله، وليس مجرد فريضة شكلية. فالمسيح، رغم أنه لم يحدد مواعيد معينة للصوم، إلا أن صيامه في البرية لمدة أربعين يومًا وأربعين ليلة كان بمثابة نموذج للمؤمنين في كيفية الخضوع لله والتفرغ للصلاة (متى 4: 2).
لم يكن الصوم في عهد المسيح عبادة منفصلة عن الحياة اليومية، بل كان وسيلة لتقوية العلاقة مع الله والبحث عن القوة الروحية في مواجهة التجارب والضغوط.
و لم يفرض المسيح الصوم كواجب على المؤمنين ولكن أكد في قوله “مَتَى صُمْتُمْ” (متى 6: 16) على أن الصوم يجب أن يكون عملًا روحيًا طاهرًا بعيدًا عن الرياء والتفاخر. كما نجد في الكتاب المقدس أن الرسل والمؤمنين الأوائل كانوا يمارسون الصوم بشكل منتظم، كما يظهر في سفر أعمال الرسل، حيث كان المؤمنون يصومون قبل اتخاذ القرارات المهمة (أعمال 13: 2-3) مثل اختيار الخدام ورسامتهم، أو في الأوقات الصعبة أثناء رحلات بولس الرسول (أعمال 27: 9-10).
أنواع الصوم في المسيحية
تتعدد أشكال الصوم في الكنيسة الأرثوذكسية، ومنها:
الصوم الكبير:
هو صيام لفترة تمتد لخمسة وخمسين يوم؛ تبدأ من يوم أربعاء الرماد، وتختلف بداية هذا الصوم بين الكنيسة الغربية التي تبدأ في هذا اليوم، بينما تبدأ الكنيسة الشرقية في يوم الأثنين.
يستمر الصوم الكبير حتى “عيد القيامة”، ويهدف إلى تحضير المؤمنين روحيًا من خلال الصلاة والتوبة والصدقة. وفي سياق التقليد الكنسي يمتنع الصائم في هذا الصيام عن اللحوم طوال الأربعين يومًا.
الصوم الصغير:
الصوم الصغير، أو صوم الميلاد، هو فترة صيام تحضيرًا لـ”عيد الميلاد”، ويستمر لمدة أربعين يومًا. يبدأ في منتصف نوفمبر وينتهي في 24 ديسمبر وفقًا للتقويم اليولياني.
ويعود هذا الصوم إلى القرون الأولى للمسيحية، ويُعنى بتقوية الروحانية وتحضير المؤمنين للاحتفال بميلاد المسيح.
صوم الرسل:
صوم الرسل، أو صوم القديسين (بطرس وبولس)، هو صوم تتبعه الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية الشرقية. يبدأ في الأثنين الذي يلي “عيد العنصرة” ويستمر حتى “عيد القديسين” في 5 شهر أبيب.
ويتميز هذا الصوم بالامتناع عن اللحوم والمنتجات الحيوانية. وتختلف مدة الصوم حسب تاريخ عيد الفصح، حيث قد يمتد من ثمانية إلى اثنين وأربعين يومًا.
صوم السيدة:
يعد صوم السيدة أحد أصغر فترات الصيام في الكنيسة الأرثوذكسية، ويُمارس قبل “عيد رقاد السيدة” بمقدار أربعة عشر يومًا، ويهدف إلى إحياء ذكرى الانتقال المجيد للسيدة مريم، حيث يركز على الصلاة والتأمل الروحي.
لماذا يمتنع المسيحيون عن أكل اللحوم والأسماك
في الكنيسة الأرثوذكسية، يمتنعون عن تناول اللحوم والأسماك خلال فترات الصيام، مثل الصوم الكبير، كجزء من تقاليد دينية تهدف إلى التطهير الروحي والابتعاد عن الشهوات الجسدية.
فوفقًا للتعاليم المسيحية، يُعتبر الامتناع عن الطعام الغني بالبروتينات، مثل اللحوم والأسماك، وسيلة للتقشف والزهد؛ ما يساعد على التركيز في الروحانية والصلاة.
ويعود الامتناع عن اللحوم إلى فكرة أن الإنسان في الجنة، قبل السقوط، كان يتغذى على النباتات فقط (كالخضراوات والفواكه) وبعد طرده من الجنة بدأ الإنسان يتناول اللحوم، لذلك يُعتبر الامتناع عنها خلال الصيام نوعًا من العودة إلى الحالة الأصلية التي كان عليها الإنسان قبل السقوط.
أما بالنسبة للأطعمة التي يتم تناولها، مثل العدس والفول، فهي تحتوي على البروتين النباتي وتعد بديلًا غذائيًا صحيًا عن اللحوم والأسماك، ما يساعد المؤمنين في الحصول على التغذية اللازمة دون كسر قاعدة الامتناع عن الأطعمة الحيوانية.
إضافة إلى ذلك، تناول الأطعمة البسيطة مثل العدس والفول يُشجع على حياة التواضع والتقشف، وهو جزء من هدف الصيام الذي يركز على تقوية الروح، واتباع المسيح حتى في تناول الأطعمة التي كان يأكلها في الصيام
دلالة الصوم وأهدافه الروحية في المسيحية
من الناحية الروحية، يُعد الصوم عربونًا للتوبة، ويعبّر عن الرجوع إلى الله طلبًا للمغفرة (يوئيل 2: 12-13). كما يُعتبر الصوم وسيلة لطلب استجابة الله في أوقات الشدة والضيق، مثلما ورد في سفر إرميا (إرميا 36: 9). وفي بعض الأحيان، يُنظر إلى الصوم كوسيلة للحصول على قوة روحية لمواجهة الشياطين والأوقات الصعبة، كما ذكر في إنجيل متى (متى 17: 21) وفي رسائل بولس (1 كورنثوس 7: 5).
المدة والمكان في الصوم المسيحي
من حيث المدة، يُعتبر الصوم المسيحي في أغلب الأحيان لمدة اثني عشرة ساعة على الأقل، حيث يمتنع المؤمن عن الطعام والشراب طوال النهار. ومع ذلك، قد يختلف طول مدة الصوم وفقًا للتقاليد الشخصية أو الطوائف المسيحية المختلفة. فبعض الكنائس تتبع تقاليد تصوم فترات أطول، مثل الأربعين يومًا التي تسبق عيد الفصح، والتي تمثل فترة من التأمل الروحي العميق قبل ذكرى موت وقيامة المسيح.
أما بالنسبة للمكان، فلا يُحدد الكتاب المقدس مكانًا خاصًا للصوم. المهم في الصوم هو النية القلبية وابتغاء رضا الله وليس تظاهر المؤمن بالصوم أمام الآخرين. في إنجيل متى (متى 6: 17-18)، يوضح المسيح أن الصوم يجب أن يكون بين الشخص والله، بعيدًا عن أية مظاهر خارجية قد تفسده. إذاً، الصوم في المسيحية هو علاقة شخصية بين المؤمن والخالق، والنية القلبية هي الجوهر.
وأخيرًا فإن الصوم في المسيحية هو وسيلة روحية تهدف إلى التقرب من الله؛ فالصوم ليس فقط امتناعًا عن الطعام، بل هو عملية تطهير داخلي، تعبير عن التوبة، وزيادة في الإيمان. من خلاله، يسعى المؤمنون إلى تعزيز علاقتهم بالله والابتعاد عن الشهوات الأرضية، ما يساهم في تجديد الروح والنمو الروحي.
الكاتب
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال