العلمانية هي الحل 08) أين تنويرنا؟
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
الحلقة دي هندور على إجابة سؤال مهم: ليه واقعنا مختلف عن أوروبا؟ ليه التنوير حداهم نجح ووصلوا للعلمانية وإحنا عطلانيين؟
مفهوم أن التاريخ كان له هناك شكل وهنا شكل تاني، وعشان نقرا التاريخ وندور ع الفروق بين اللي حصل هناك ووصلهم للعلمانية واللي حصل هنا فبقينا عديمي العلمانية. محتاجين ناظرة شاملة لكافة مكونات المشهد التاريخي (سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية) والتفاعلات بينها وبين بعضها وتفاعلات الناس معاها.
وعشان الموضوع كبير قررت أستعين بصديق قاري ومطلع ومستوعب الأشياء.
إسلام مِلّبا، كاتب ومخرج
النهضة والتنوير والحداثة، مثلث مهم عشان نفهم التطور بتاع أوروبا، بالتالي نقدر نعرف إيه اللي ممكن يكون في الأفق بالنسبة لمنطقتنا الناطقة بالعربية.
في رأيي إن لكل (عصر حداثته ولكل عصر تنويره)، لو صيغنا التنوير في هيمنة العقل على النظر في الظواهر وتفسيرها من داخلها من غير أي تفسيرات ميتافيزيقية، وإن لا إمام إلا العقل. فشايف إن كان فيه على مدار تاريخ المنطقة كذا حداثة وكذا تنوير، وإن المسألة مش خط مستقيم إنما منحنيات بتطلع وتنزل زي مؤشرات البورصة.
مثلًا الحضارة (العربية الفارسية الإسلامية) مرت بموجات كبيرة من التنوير والحداثة والتحديث، وحصلها تراجع بعد كده. مع تواصل المسلمين الأوائل والعرب وانتشار الإسلام كإطار عام هوياتي يقدر يستوعب جواه ثقافات وحضارات تانية، حصل توالُج وتناسُج حضاري بين الحضارة الفارسية والفلسفة اليونانية.
وبالأساس طول الوقت إقليمنا الجغرافي محطوط في قلب الصراع بين الثقافتين دول، خصوصًا بعد إنهيار حضارة وادي النيل والحضارة البابلية.
النهضة والتنوير القديم في مواجهة الرجعية الإقطاع
الحياة في زمن (الإمبراطورية العربية الفارسية الإسلامية) كانت مرتبطة بالاقتصاد الزراعي في صورته الإقطاعية القايمة على قوة عمل المستعبدين (اللي همه سموهم “عبيد”) واللي نجم عنه ثقافة رجعية معادية للتحديث الصناعي، ده تسبب في تراجع تأثير الرموز دي والتيارات اللي خرجوا من رحمها. نفس اللي حصل في أمبراطوريات إسبانيا والبرتغال وروسيا القيصرية.
على عكس التنوير في باقي أوروبا اللي مهد لصعود الثورة الصناعية وكان متزامن ومتقاطع معاها، فتغير آليات الإنتاج وتركيب طبقات المجتمع سمح للتيارات التنويرية إنها تقطع شوط أكبر بكتير مقارنة بالمجتمعات اللي لسه غارزة في طين الإقطاع.
سؤال الاستعباد
من أهم أزمات التنوير “الناطق بالعربية” إنه ماقدرش يهرب من سطوة الفكر القبلي الاستعبادي عليه، من ناحية لإنه مرتبط بالنظام الاقتصادي الإقطاعي (الرجعي)، ومن ناحية تانية لارتباطه بمفهوم الديني (الرب والعبد).
الصوفية حاولت تقدم حل لأزمة المصطلح ده، فبقى عندنا المحبوب والمُحب أو القُطب والمُريد، مصطلحات نابعة من علاقة تفاعلية متجاوزة لعلاقة السيد والعبد بنت الثقافة العربية القبلية القايمة على الاستعباد والغنيمة، وكان من أبرز رموز الصوفية وقتها ابن عربي والسهروردي و إخوان الصفا وغيرهم.
ومن ناحية تانية حاول المعتزلة تقديم حلول لعقلنة العقيدة والمنظومة الدينية، عبر تبنيهم مقولات مهمة عن التأويل والمجاز، وأهمية مراعاة السياق التاريخي والمجتمعي عند تفسير النص الديني.
أهم محطات التنوير الناطق بالعربية
زمن الأمبراطوريات العربية الفارسية الإسلامية كان فيه إرهاصات تنوير وحداثة، عبر التلاقي مع الترجمات النظرية للفلسفة اليونانية وفلسفات الشرق الأوسط والأدنى. وشوفنا ده بوضوح مع رموز تنوير العصور الوسطى زي (ابن سينا، الرازي، ابن النفيس، الحسن بن الهيثم) ودول الأبرز، ييجي بعدهم أبو علاء المعري وابن خلدون، ثم المقريزي “بدرجات”.
أما بالنسبة لما بعد القرون الوسطى عندنا إشكالية تاريخية موضوعية، وهي إننا ببساطة لا عيشنا الثورة الصناعية ولا حروب دينية/مذهبية كبيرة زي أوروبا. أه كان فيه حروب عنوانها طائفي أو مذهبي زي حروب الفاطميين ضد العباسيين، لكن الموضوع ماكنش شعبي (إقتتال أهلي بشكله الكلاسيكي).. إنما كيانات سياسية (إذا جاز التعبير) بتجيّش أتباع ليها وتحارب بعضها.
بالتالي كنا مجرد رد فعل، يعني مثلا تجريمنا للإسترقاق كان نتيجة هيمنة كولونيالية أوروبية فرضته علينا وعلى العالم. عشان كده هنلاقي منطقة الخليج أتأخرت في القرار ده لغاية ستينيات القرن العشرين، ونموذج زي موريتانيا لغوه بشكل رسمي سنة 2015، ولسه لحد النهارده فيه جمعيات أهلية ومؤسسات مجتمع مدني بتشتغل على مكافحة الاسترقاق زي منظمة نجدة العبيد.
مثلث التنوير
بناء على السرد اللي فات أقدر أقول إن أوروبا عاشت 3 تفاصيل مهمة إحنا ماعشنهاش:
- حروب أهلية شعبية قايمة من منطلقات دينية/مذهبية (الكاثوليك والبروستانت نموذجًا).
كانت من أهم التفاصيل اللي خلت المجتمع الأوروبي يفهم إن العلمانية ضرورة مش رفاهية.
- التطور الاقتصادي من نظام زراعي/إقطاعي (رجعي) إلى النظام صناعي/رأسمالي (حداثي).
ودي معركة اقتصادية كان ليها تأثير كبير مجتمعيًا، بسبب إن الرأسماليين كانوا محتاجين يجردوا الإقطاعيين من قوتهم العاملة والقدرة على التجييش ضدهم، بالتالي تبنوا سياسة تحرير المستعبدين، زي ما حصل من إبراهام لينكون أثناء الحرب الأهلية الأمريكية.
- العولمة.
إحنا بقى كنا ملحقين على موجة التطور دي، فلغينا العبودية وقت الخديوي إسماعيل، على عكس المملكة الإسبانية وروسيا القيصرية اللي أتأخروا بعدنا بسنين.
حدانا والآن
الشرق الأوسط دلوقتي لأول مرة، ومع غروب الصحوة الإسلامية، على أعتاب مشروع تنويري تحديثي، راس الحربة فيه هو الخليج اللي زي ما كان الممول الأول والأهم لمشروع الصحوة المعادي والتنوير والحداثة (من 1979 حتى 2013)، هو نفسه اللي بدء مؤخرًا (بداية من 2015) وبنفس الحماسة القديمة يمول نشطات فنية وثقافية متنوعة.
بس لسه ينقصه المؤسسية، المتمثلة في جامعات ومتاحف ومجتمع أهلي.. وبرلمانات قوية. صحيح بعضها موجود “شكليًا” بس محتاج يتطور، لأن ماينفعش جامعات بدون بحث علمي، ماينفعش تدريس علوم حديثة وتحريم دراسة نظرية التطور، ماينفعش برلمانات ومافي مجال سياسي حر… إلخ. كل دي عوامل من غيرها يبقى الشغل اللي حاصل كله “ع الوش”.. ينفع بكرة الصبح يتلغي بقرار.
أزمة تنويرين بدايات القرن العشرين
فيه أزمة أساسية عند تنويريين التاريخ الحديث، وهي إن أغلبهم خريجيين تعليم ديني “كتاتيب“، وده جعل النخبة دي مش قادرة تاخد خطوات واسعة ضد مرجعيتها الأساسية (الموروث الديني).
عشان كده غالبيتهم حاولوا يعملوا حالة من التوفيق بين الحداثة وبين النص الديني، بس المحاولة للآسف بتفشل كل مرة.. فشل ذريع، وبينتهي التوفيق لحالة تلفيق، لأن مافيش تنوير ممكن ينجح وهو له سقف.
فنلاقي إن كتاب سيد قطب “معالم في الطريق” هو الأكتر نجاحا وانتشارا لحد النهارده مقارنة بكتاب “مستقبل الثقافة المصرية” بتاع طه حسين، اللي مافضلش من مشروعه الفكري غير الجامعة.
ولو ركزنا في النتيجة دي وشوفنا مثيلاتها هنلاقي إن أي معركة بالشكل ده بينتج عنها انتصار الطرف الأكتر أصولية، زي ما أبو حامد الغزالي انتصر من قبره على ابن رشد وهو حي. فما بالك بطه حسين وهو بطوله بيخانق الأصولية الدينية والبشوات الرجعيين والسرايا والإقطاع.
تطوير المناهج
إحنا دلوقتي في بدايات القطيعة المعرفية مع الموروث الديني الرجعي، وباقول الكلام ده بناء على مثال واضح ودال جدًا.. أنت عندك من يومين أتعرض فيلم على قناة تابعة للدولة عن المفكر التنويري د. نصر حامد أبو زيد، في نفس الوقت وزارة الثقافة منعت أمسية رمضانية عن الواعظ اللغوي متولي الشعراوي، مع إن وزارة الإعلام لنفس الدولة من عشرين سنة أنتجت مسلسل تلاتين حلقة عن نفس الشخص، وده بيدينا دلالات مهمة جدًا أننا ماشيين في سكة حداثة وتنوير.
إحنا رايحين في سكة أول عصور النهضة، خصوصًا وإن داعش ساعدت في تدمير “حلم الخلافة” القرون الوسطى.. وده لإنها أعادت إنتاج إمبراطورية دي حرفيًا بكامل دمويتها بعيد عن الأوهام الرومانسية، اللي نشرتها منابر الصحوة على مدار أربعين سنة، وللآسف مناهجنا التعليمية كانت ومازلت شريكة في جريمة نشر الأوهام دي، بالتالي أول خطوة فعلية لتجذير التنوير هي إصلاح المناهج التعليمية لتصبح أكثر حداثة، فيطلع عندنا جيل فاهم أن الزلازل ظاهرة طبيعية وجيولوجية مش عقاب إلهي.
صحيح إسلام مِلبا قدملنا رؤية معمقة للتاريخ، بس محتاجين كمان نشوف الوضع من زاوية تانية نادرًا ما بننتبه لها.. وهي زاوية الكنيسة، ليه الكنيسة في أوربا حكمت وهيمنت على ما يبدو عكس الوضع هنا. وخير من يكلمنا من الزاوية دي هو أرنست وليم.
مبدئيا لازم نفرق بين الكنيستين، لأن كل واحدة فيهم عاشت في مجتمع وواقع مختلفين عن بعض.
السيطرة الكنسية
الكنيسة الغربية حاولت تسيطر على مجتمعها، وفعلا سيطرت على ضمير الناس وتدخلت بقوة في القوانيين والسياسة بشكل عام. ما ترتب عليه أزمة العصور الوسطى في أوروبا، والمعروفة باسم “عصور الظلام”.
وهو العصر اللي بنهايته، ولفظ المجتمع لسلطة الكنيسة وكسر هيمنة رجال الدين في الغرب، صار الغرب.. غرب، صارت العلمانية ممكنة وصارت حقوق الإنسان ممكنة، إلى أخر الأشياء اللي تخلينا النهارده معجبين بالغرب.
المجتمع الغربي ولأسباب كتيرة، ماعشنهاش إحنا هنا، زي الحروب الدينية الكبيرة والثورة الصناعية وتغير التركيبة المجتمعية بظهور الطبقة البرجوزاية، وغيرها من المعطيات الاقتصادية والمجتمعية.. أدت لثورة المجتمع الغربي على كنيسته وتحجيم دورها في المجتمع.
ما قبل الإنشقاق
خلال فترات ما قبل الإنشقاق بين الكنيستين، بناء على نتائج مجمع خلقيدونية 451م، يعني من أيام قسطنطين وحتى منتصف القرن الخامس، الممارسات اللي بابوات الكنيسة الشرقية بيمارسوها كانت مماثلة تمامًا لنظرائهم في الكنيسة الغربية. ونقدر نلمس التوجه السلطوي ده النهارده لو ركزنا على طريقة تعامل الكنيسة الشرقية مع رعاياها بالذات في ملف الأحوال الشخصية.
فالفارق هو الظرف المجتمعي والسياسي، الكنيسة الغربية عاشت في مجتمع غالبيته مسيحية وقريبة من سلطة أمبراطورية بتدين بالمسيحية، فهيمنت ع المجتمع كله (شعب وسلطة) لغاية ما الشعب لفظها بكامل مكونتها (مؤسستها، رجالها، لاهوتها، أفكارها، أخلاقياتها)، هنا خدت الكنيسة الغربية المنحى الأكثر تقدمية وإنسانية اللي بنشوفه النهارده.. وده حصل جبرا لا فضلا.
الكنيسة الشرقية ولاهوت الخضوع
بينما في الشرق، الكنيسة عاشت مرحلتين، كانت وسط غالبية مسيحية وسلطة مسيحية فكانت هي كمان متجبرة، لكن الظرف السياسي اللي أحاط بيها حطها في مربع الأقلية المستضعفة، ودايما فيه لاهوت مستضعف، زي ما فيه لاهوت لما تكون الكنيسة في موقع القوة والسلطان، والأتنين موجودين في الكتاب المقدس.
بالفعل أعتادت الكنيسة الشرقية على دور التابع، لدرجة إن التبعية أصبحت جزء من لاهوتها. بمعنى أنها شكلت لاهوتها حول قول بولس الرسول في رومية 13، اللي مفاده أن يجب علينا أن نخضع للسلطة أيًا كانت، فهي “لا تحمل السيف عبثًا” وإنما هي “خادم الله للصلاح”. بالتالي التمرد على السلطان هو تمرد على الله، “فالجزية لمن له الجزية” و”الجباية لمن له الجباية”.
ماينفعش نبقى بنتكلم عن التنوير والعلمانية ومانخدش رأي حامد عبد الصمد، صاحب سقوط العالم الإسلامي والفاشية الإسلامية ومؤخرًا المخفي عن العوام من تاريخ الإسلام.
بدأ حامد عبد الصمد كلامه بالتأكيد على أهمية تعريف التنوير عشان نعرف نرصده.
شرح التنوير
التنوير مش مجرد ثمرة أي أحد ممكن يُقطُفها، إنما شجرة كبيرة ليها جذور ضاربة في أعماق الأرض وغصون لا تتوقف عن النمو وطرح ثمار جديدة متنوعة.
هو تراكم معرفي ومجتمعي عبر قرون طويلة، هو أسلوب حياة ونظرة متكاملة للإنسان والمجتمع والدولة.. أسلوب قايم ع العقل والمعرفة.
هو قوانين وتعليم حريصين على حرية الفرد وتطوره وأمنه وتعايشه السلمي مع الآخرين.
تطور التنوير الأوروبي
التنوير مش زرع شيطاني ظهر فجأة في القرن التمنتاشر، إنما هو نبت “أوروبي” طبيعي.. له جذور تاريخية ظاهرة في الأساطير اليونانية اللي تمتعت بمساحة تسامح مع التفكير الإنساني سمحت بتعظيم دور العقل ومهد طريق ميلاد الفلسفة.
نبات أستمر في النمو على أيد الفلاسفة السفسطائيين “الإنسانيين الأوائل”، ثم مع انتشار المسيحية واصل النمو عن طريق الغنوصية، اللي حاولت توفق بين المسيحية والفلسفة. لكن مع سيطرة الفكر الديني ع السلطة والمجتمع وشيطنته للفلسفة، خلال القرون الوسطى، مر التنوير بأزمة كبيرة.
أستعادة نبتة التنوير جزء من عافيتها مع بداية عصر النهضة، وظهور تيارات جديدة في الفن والأدب نجحت تعيد التواصل بين المجتمع الأوروبي في زمنها وبين الثقافة الإغريقية القديمة وخصوصًا الفلسفة، وللأمانة التاريخية كان للمسلمين دور مهم في المرحلة دي.
ثم ظهرت الحركة الإنسانية الجديدة وتلتها حركة الإصلاح الديني ونقد الكنيسة الكاثوليكية، ثم الثورة الفلسفية الجديدة اللي أسئلتها تجاوزت ثلاثية “الخير والحق والجمال” أو حتى مسألة وجود الله. وصلت لقضايا مجتمعية صرفة زي العلاقة بين الدولة والمواطن وقضايا القانون والتعليم.
رجوع الفن والأدب والفلسفة لصدارة المشهد غيروا علاقة الشعوب الأروبية بالنصوص الدينية وطريقة قراءتها وتأويلها. والعلم غيّر نظرة الإنسان للكون، بعد كوبرنيكوس وجاليليو الأرض ماعدتش هي مركز الكون، ونظرية التطور لداروين غيرت نظرة الإنسان لنفسه وبالتبعية لقصة الخلق التوراتية.
نظريات فرويد غيرت نظرة الإنسان لتصرفاته ومشاعره، الثورة الصناعية خلقت ديناميكية اقتصادية ومجتمعية جديدة، خلقت طبقات تانية غير الأرستقراطيين والفلاحين، والثورة الجنسية غيرت العلاقة بين الجنسين وحررتهما من أدوارهما التقليدية.
ديكارت وسبينوزا ولاد أرسطو، وجون لوك وجان جاك روسو ولاد أفلاطون. فولتير ونيتشه ولاد -أسطورة- بروميتثيوس، اللي سرق النار من الآلهة واداها للبشر. مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي ولاد الفن الهلنيستي، وأينشتاين ابن نيوتين، ونيوتين ابن أرخميدس وأبيقور… إلخ.
مسلسلات نيتفليكس بنت أفلام هوليود اللي هي بنت كتابات شيكسبير وجوته، وشيكسبير وجوته هم ولاد هوميروس. كلهم أبناء منظومة تنويرية واحدة ليها روافد متعددة، كل منهم استفاد من الأقدم منه وبعدين نقده وطوره ثم تخطاه وتجاوزه لفضاءات وتجارب جديدة.
علاقة التنوير بالدين
الدين مش ضمن قضايا التنوير، وفلاسفة التنوير الأوائل حاولوا تجاهل الدين أو تجنبه، بس بدأت مشكلتهم مع الدين لما الكنيسة رفضت العلم لأسباب دينية وأعلت من شأن النص المقدس وتشريعاته على حساب الإنسان وحريته ومصالحه.
الصراع بين التنوير والدين هو صراع بين الحرية والغصبانية، بين الأسطورة والعقل. ولب مشكلتنا كسكان الشرق الأوسط مع التنوير هو علاقتنا بالزمن والتاريخ والأسطورة والمقدس والفن والأدب والعلم والفلسفة، علاقتنا بالفرد والمرأة والآخر، وعلاقتنا بالجسد وبالحرية.
أزمتنا مع التنوير
علاقتنا بالزمن مضطربة.. لأننا بنعتبر لحظة البعثة المحمدية هي حجر الزاوية في تاريخ البشرية، كل اللي قبلها جاهلية وكل اللي بعدها عصور فتن، فخير القرون هو قرن الرسول ثم الذي يليه ثم الذي يليه.
علاقتنا بالعلم مضطربة.. لأننا شايفين أن لا كرامة ولا ازدهار إلا في إعادة استنساخ تجربة دولة المدينة واتباع تعاليم القرآن والسنة النبوية. فنبحث عن العزة في الدين وبس.. بالتالي فاتنا قطر العلم، ولما بنضطر نتعامل معاه بنحاول نقيسه على مزورة الدين.
علاقتنا بالحياة مضطربة.. لأننا مقسمين الزمن (جاهلية ونور) والبشر (مؤمنين وكفار)، فبشكل أوتوماتيك بنقطع أي طريق بيننا وبين الثقافات الأخرى، قديمة كانت أو حديثة وبنحرم نفسنا من تجاربهم ومعارفهم.
علقاتنا بالفرد والجسد.. واعتمادها على أخلاق القبيلة كمرجعية خلتنا أهدرنا طاقاتنا في محاولة التوفيق بين متطلباتنا النفسية والجسدية وبين توقعات الدين والمجتمع (القبيلة) مننا.
نماذج التفكير
الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون قسم البشر لـ3 أنواع، نوع زي النمل ونوع زي العناكب والأخير زي النحل.
النمل
النمل بيجمع حاجات كتير ويخزنها كويس، بس مابينتجش أي حاجة جديدة بنفسه.
إحنا عقليتنا زي النمل، بتعيد إنتاج نفس النموذج الفكري والسياسي بصيغتين مختلفتين في الشكل مش في المضمون، الأولانية هي الأصولية الإسلامية زي حكم طالبان وإيران وحماس وداعش، أو الستالينية البدوية زي حكم عبد الناصر والقذافي وصدام والأسد وبوتفليقة.. إلخ.
النحل
يتغذى على رحيق مختلف أنواع وأشكال الأزهار وينتج عسل.
العنكبوت
العنكبوت بينسج حوالين منه خيوط بتبقى سجن له.
أعتقد المثال ده مناسب للعقلية التنويرية عندنا، بتنتج أو تعيد إنتاج أفكار بحتة عن الحريات والحقوق، وتعيش أفكارها بدون ما المنتج النهائي يكون مفيد ليها أو للمجتمع بشكل عملي.
متطلبات التنوير
ماقصدش إن تجربة التنوير عندنا فشلت، إنما لسه طفلة.. محتاجة شجاعة جوردانو برونو وشك ديكارت ومنهجية كانط وسخرية فولتير ووضوح رؤية جون ستيوارت ميل. ومشكلتها الأساسية أن مطلوب منها تعيش كل مراحل التنوير في عصر واحد وبسرعة، في حين أن مزاج الحكام والمجتمع والظروف السياسية والاقتصادية والإقليمية كلها ضدها.
يحتاج التنوير لأفراد بعقلية النحلة، تمتص تجارب ومعارف الآخرين وتنتج معارفها وتجاربها هي. وفي النهاية التغيير مش اختيار، إنما هو حتمية تاريخية في ظل تطور الوعي البشري.
فيه طريقين للتغيير: طريق الكوارث والحروب الدينية والأهلية وتفكك الدول والمجتمعات، أو طريق التصالح مع العالم ومع المعرفة والحرية وشجاعة الشك والبحث والتجديد. أوروبا أخدت الطريق الثاني بعد ما عانت قرون من الطريق الأولاني، فهل هنتعلم من أخطاءهم ولا هنمشي نفس طريقهم الطويل… الدموي؟
الرؤية المتفائلة لحامد عبد الصمد ومن قبله إسلام ملبا، اختلفت معاها رؤية الناشطة العلمانية هبة دربالة، حيث أن تقييمها للمشهد الراهن إننا متأخرين شوية كتار عن المشهد العالمي.
الدولة المفقودة
أنا باشوف إن سبب فشل التنوير عندنا هو إننا لسه على ما يبدو ماتعرفناش على مفهوم الدولة! لسه مجتمعاتنا عايشة في حدود دينها أو عشيرتها، وأنظمة الحكم نفسها في منطقتنا مش متعرفة على نفسها كدول حديثة! إحنا بكامل شعوبنا ومؤسساتنا مادخلناش أصلًا في منطقة الدولة والشعب والعقد الاجتماعي ما بينهم، عشان نبقى منتظرين إن الدولة دي تتطور وتبقى علمانية!
حلف الظلام
وطبعا تحالف أي نظام ديكتاتوري مع الرجعية الدينية بيصعب مهمة قوى التنوير، إن صحت التسمية، ونقدر نشوف نموذج تحالف الأمبراطورية الرومانية مع الكنيسة الغربية عمل إيه في أوروبا لقرون طويلة.
ثنائية التعليم والثقافة
التعليم السئ وغياب الثقافة تمامًا من المشهد لحساب الدروشة الدينية، دي بالأساس مهمة الدولة مش الأفراد، اللي أتفقنا أننا لسه مادخلناش -فعليًا- عصر تواجدها بشكلها الحديث.
غلبة الدروشة الدينية بيجعل فيه صعوبة في إدراك الناس لحالهم ووعيهم بأهمية تواجد الدولة “والدولة العلمانية بالأخص” حفاظًا على مصالحهم الشخصية والعامة، وده بسبب الخطاب الديني اللي بيخلي إدراك ده أمر بعيد عن تصورهم. وبيشغل عقولهم ووجدانهم دايمًا بشعور وهمي عن حتمية الدفاع عن الدين من عدو مجهول، عدو وهمي خلقته الرجعية الدينية.. كفزاعة تمنع بيها الأفراد والمجتمع ككل من الخروج بره حدود نظرية المؤامرة.
بعد رأي الأصدقاء الكُتاب المهتمين بالتنوير، والمتخصصين في نقد الفكر الديني، مهم جدًا ناخد رأي متخصص في التاريخ، فتعالوا نشوف رأي المؤرخ المصري شريف يونس.
نهضتنا
المنطقة هنا عاشت عصر نهضة في أواخر القرن التسعتاشر والنُص الأولاني من القرن العشرين. والعصر دا معروف تاريخيًا بالفعل باسم “عصر النهضة“، وزيه زي عصر النهضة الأوربي كان محصور في فئات قليلة من الناس. كل ما في الموضوع إن الناس عندها أوهام عن عصر النهضة وعصر التنوير الأوربي وفاكرين إن معظم الناس هناك كانوا زي مايكل أنجلو في العصر الأولاني وزي فولتير في العصر التاني.
كمان دايمًا بننسى -أو مش مهتمين- أن بين العصرين دول كان فيه 150 سنة كاملين معروفين باسم عصر الإصلاح الديني” مرحلة كان شعارها “العودة للكتاب المقدس”. شعارات وطريقة تفكير ترتب عليها تكفير متبادل بين الفرق المسيحية الجديدة والكنيسة الكاثوليكية، واختلط ده كله بأطماع الملوك والأمراء وتوالت المذابح، سواء على إيد الجيوش أو المواطنين ضد بعضهم، وشاركت معظم الطوايف في قتل حوالي ربع سكان أوربا الغربية، منها إعدام 60 ألف ست بتهمة السحر.
اللي عايز يقرا عن الموضوع باستفاضة؛ حيلاقيه في أحد مجلدات موسوعة قصة الحضارة بتاعت ول ديورانت.
مرحلة الإصلاح الديني
عصر النهضة المصري كان برضو محدود في مداه، خصوصًا لما نفتكر إن الأمية كانت 80% والفلاحين كان معظمهم في حالة يرثى لها من الفقر والجهل والمرض، زي ما اتضح لطه حسين نفسه في كتابه اللي أصله مجموعة مقالات: المعذبون في الأرض.
اللي جِه بعد كدا كان برضو عصر إصلاح ديني، عصر أصولية دينية قايمة على العنف المعنوي دايمًا والمادي أحيانا وشمل المنطقة كلها، وذروته هي الجماعات الجهادية وعلى راسها داعش. فاحنا مش في العصور الوسطى ولا حاجة زي ما فيه ناس بتقول، إحنا في مرحلة انحسار الإصلاح الديني لصالح فكرة التسامح الديني وعودة العقلانية.
الخلاصة
إحنا أه متأخرين عن العالم الغربي، بس ماحناش في العصور الوسطى، إنما عديناها بمحطة ودخلنا عصر الإصلاح الديني، وحالة الهوس الديني اللي إحنا عايشينها دي تكاد تكون أخر معافرة.. اللي بنسميها بالبلدي كده (حلاوة روح).
السلطة الدينية هي هي في كل زمان ومكان، اللي بيفرق هو قدرة الشعوب على الوقوف ضد رغبة رجال الدين في الهيمنة على الحياة والضمير البشري، وهوسهم إن كل أوجه الحياة تكون بتدور في فلك رؤيتهم وفهمهم لكتبهم المقدسة.
النهضة الأوربية بدءت وكنا إحنا لسه عالقين في العصور الوسطى، ولما التنوير الأوروبي أنطلق مع صناعة المطبعة وترجمة الكتاب المقدس وغيره من الكتب إلى اللهجات المحلية بدل من اللاتينية، اللي غالبية الأوربيين ماكنوش بيفهموها كويس.. فكانت بداية تبلور اللغات الأوربية الحالية.
مع بدايات الاحتلال الأوربي بدأت نهضتنا، ومع نهاية السبعينيات بدء عصر الإصلاح الديني باسم (مشروع الصحوة) بتمويل خليجي، وعصر تنويرنا بدء مع الأنترنت.
فالمشوار لسه طويل وهيكون له ضحايا، أتمناهم أقل من اللي راحوا في أوروبا، أتمنى إننا نتعلم بالطريقة السهلة مش الصعبة.
بكده تكون سلسلة العلمانية هي الحل تمت أخيرًا، اللي عايز يراجع اللي فات يتفضل هنا:
الحلقة الأولى، الحلقة التانية، الحلقة التالتة، الحلقة الرابعة، الحلقة الخامسة، الحلقة الساتة، الحلقة السابعة.
الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال