العنقاء .. المستحيل الذي لا نعرفه
-
أمل فكري
كاتب نجم جديد
بلغتنا العربية الجميلة ومنذ زمن طويل كان قد اتفق على قول شهير جدا ويستخدم في التعبير عن الشيء الذي يستحيل حدوثه فيقال: أن هذا الأمر يعد من رابع المستحيلات. وربما ترجع شهرة المستحيلات الثلاثة الأولى فعليا لبيت شعر صاغه الشاعر العربي صفي الدين الحلي وهو أحد شعراء العصر الأندلسي التنويري – ويقول فيه أن المستحيلات ثلاثة :
لما رأيت بني الزمان وما بهم خل وفي ، للشدائد أصطفي أيقنت أن المستحيل ثلاثة، الغول والعنقاء والخل الوفي
المستحيلات الثلاثة:
أولهم الغول وهو كائن خرافي ورد ذكره في القصص والأساطير الشعبية وهو في هيئة وحش بشع الشكل ضخم الحجم ومختلط أمره ما إذا كان من فصيلة الحيوانات أم مزيج من الإنس والجن.
وثانيهم العنقاء وهو طائر النار الفردوسي تقول الأساطير والروايات أنه طائر بحجم ضخم وقوة خارقة قد تمكنه من حمل فيل والطيران به. وله عنق طويل انسيابي يلتف حوله طبقة من الريش الناعم شديد البياض كأنة طوق ولهذا جاءت التسمية العربية عنقاء.
وثالثهم الخل الوفي – وهو إن جاز التعبير والاعتقاد ذلك الشخص الذي يؤتمن على الأسرار ويسعف في وقت الحاجة ويضحي بحاله وفوائده الشخصية لينقذ ويسعد صديقه – فتظهر في هذه الشخصية الأسطورية أيضا لندرة وجودها ثلاث علامات شبه مستحيلة إيثار الآخر على النفس والوفاء وحفظ السر.
وهنا نجد العنقاء ثاني المستحيلات الثلاث، التي ذكرها السابقون ، فلماذا كانت العنقاء مستحيلًا والتراث مشبع بحكاياتها؟
أسطورة العنقاء في الموروث الشعبي
وهو طائر الفينيق Phoenix في الأساطير الإغريقية أو طائر البينو عند الفراعنة . وطائر الميلشام الفردوسي المقدس في اليهودية الذي رفض أن يأكل من الفاكهة المحرمة وهو ايضا طائر العنقاء (أو الرخ) في التراث العربي القديم حيث كان بطلاً لكثير من الحكايات والاساطير مثل حكايات السندباد وألف ليلة وليلة وأدب الرحلات لابن بطوطة وغيرها أو طائر النار في التراث السلوفاكي وطائر الشمس الجارودا في الثقافة الهندية القديمة وطائر الرعد (ثندربيرد) عند قبائل الهنود الأمريكية القديمة.
وتحكي لنا الأساطير قصص عن الطائر كرمز للحياة والموت والخلق والفناء ، وتخترق هذه القصص حواجز المنطق والزمان والمكان بل والأديان أيضا.
وبحسب التفاصيل المشتركة بين كل هذه القصص من الثقافات القديمة المتعددة في وصف هذا الطائر نعلم انه كان عملاق ذو رقبة طويلة وبها ريش ابيض ناعم يشكل طوق حولها وربما كان هذا سبب تسميتها بالعنقاء. والطائر متعدد الألوان وإن كان يغلب عليه لون التراب الاحمر مع اللون الذهبي ، له قوة خارقة قد تمكنه من حمل حيوان بحجم الفيل بين مخالبه والطيران به ويعيش الواحد منه مدة تتراوح بين خمسمائة لمائة عام بعدها ينطلق من موطنه الأصلي في بلاد الشرق البعيدة (الجنة) الى بلاد الموت (الأرض).
مشهد ميلاد الحياة من قلب الموت
في قلب الليل الحزين المظلم وقبل بزوغ أنوار الفجر الأولى بساعات قليلة ، يقف الطائر العملاق بديع الألوان رائع الهيئة على أعلى قمم النخيل الشاهقة بساحل فينيقيا ويختار النخلة الأطول ليبدأ في غزل عش كبير يتسع لحجمه فيضع عيدان السعف وحشيشة الأعشاب والأغصان الصغيرة والجوازات الطيبة والفصوص العطرية الطويلة وعيدان القرفة فوق بعضها بترتيب معين ويهتم بالتفاصيل والزوايا ليصنع بناء منمق ويضمن جودة تماسكه . وقد يدهشنا كونه في حالة اعياء وارهاق شديدة كما يبدو جليا، من دون أن تنتقص هذه الحالة من تأنقه وجمال هيئته بل وهمته الشديدة في البناء.
ثم تبدأ الشمس في إرسال أشعتها الأولى للأرض فيتمدد الطائر داخل عشه الجميل و يفرد أجنحته الطويلة البراقة بالأحمر والذهبي ويلقي برأسه للخلف مستقبلا ضوء الشمس وهو يغني لحن حزين في غاية الجمال لدرجة أن إله الشمس ( أبولو عند الرومان وهيليوس عند الإغريق ) يتوقف بعربته المقدسة التي يجرها اربعة خيول يجوب بها السماء طولا وعرضا ، ليستمع الى لحن العنقاء الجميل وما ان ينتهى الطائر من الغناء حتى ينطلق هيليوس بعربته الى عنان السماء مخلفا وراءه شرارة صغيرة تلتصق بالعش وتضرم النار وتتحول لمحرقة عظيمة تلتهم العش والطائر وتحوله الى رماد في بضع دقائق وفي طقس مهيب يمثل نهاية الحياة. إلا أن القصة لم تنتهي بعد، حيث تتجدد الحياة مرة اخرى بعد مرور ثلاثة أيام وتحول الطائر المدهش الى جسد متفحم ورماد. فتنبت من قلب الرماد يرقة بيضاء صغيرة بلون اللبن الصافى سرعان ما تتحول الى طائر جديد يشتد عوده ليحمل ما تبقى من رماد سلفه ويصنع كرة كبيرة ممزوجة من معجون نبات المر والقرفة واللبان ويصنع بها ثقب كبير يخزن به الرماد وبقايا الجسد المتفحم ثم يغلقها بالمر و يلصقها جيدا ويبدأ رحلته المقدسة ليضعها على مذبح اله الشمس في (مدينة هليوبوليس بمصر) ثم يطير إلى موطنه الاصلي ببلاد الشرق البعيدة. وهناك طقوس إجلال وتعظيم لهذا الطائر من قبل المصريين القدماء. وهكذا تتجدد حياة الطائر مرارا وتكرارا ، دوريا كل خمسمائة عام فيولد من جديد بعد أن يحترق وهو رمز للحياة المستمرة والتجدد والخلود.”
إقرأ أيضًا….أزمة الشيخ إمام .. العود أم القرآن ؟
فرضية أصل تسمية العنقاء و الفينيق
يقول الباحث السوري باللغات السامية المقارنة من جامعة السوربون بفرنسا الدكتور فايز مقدسي :
” بعد البحث الذي قمت به في نطاق لغاتنا السورية القديمة وجدت أن اسم “فينيق” محرف عن “فينيقيا” أي سوريا، لأن الإغريق ردوا أسطورة العنقاء إلى أصلها السوري في العهد الفينيقي فسموا الطائر باسم فينيق، أي الفينيقي أو السوري. غير أنني وبعد التقصي عثرت على دلالة الاسم “عنقاء” في مقاطع من اللغة السومرية القديمة، ووجدت أن الاسم كما دخل إلى العربية “عنقاء” مؤلف في الأصل من مقطعين سومريين: الأول هو “آن” ويعني “السماء”، والثاني هو “كي” ويعني الأرض. وإننا إذا جمعنا المقطعين معًا نحصل على صيغة “انكي” وهو اسم إلهي معروف بالسومرية منذ القدم، ويعني “السماء والأرض”، والسماء اسم مذكر بالسومرية والأرض مؤنث، فيكون “انكي” هو قران السماء والأرض معًا واستمرار الحياة. وهناك قصيدة سومرية تعود في أصولها إلى الألف الثاني قبل الميلاد تحمل اسم (عرس الأرض والسماء أو عرس آن وانكي). وللأمر دلالة واضحة. فيما بعد ونتيجة تعدد لفظ حرف الكاف والألف والعين ونتيجة تعدد اللهجات السورية القديمة تحول الاسم من “انكي” إلى “عنقي” ثم تحول إلى “عنقا” لتبادل الأحرف الصوتية الألف والياء والواو، وانتهى به الأمر أن يدخل العربية في صيغة “عنقاء” ولا قيمة صوتية للهمزة في اللغات المشرقية
وهكذا ففي اسم العنقاء نحصل على أبدية اتحاد السماء والأرض، واستمرار الوجود بواسطة اتحاد المذكر والمؤنث في الكون. وهي دورة أبدية يرمز إليها طائر العنقاء كما بينا. وعن هذا الاتحاد العظيم جاء جذر “عنق” ثم اسم “عناق” ثم فعل “عانق، يعانق”، وكلها تدل على الاتحاد وتمازج الأول بالثاني.
كما أن الاسم “عنقاء” موجود في أسماء الكثير من الأسر السورية، واكتفي هنا بذكر اسم المغني الأمريكي السوري الأصل بول انكا Paul ANKA، الذي اشتهر في ستينات القرن الماضي في العالم أجمع، واسمه في الاصل “بولس عنقا” الذي تحول إلى “بول انكا” بالأمريكية. وما تزال أسرة عنقا موجودة إلى اليوم في حلب في سوريا، وربما في أمكنة أخرى أيضًا.
ومم يعزز النتيجة التي توصلت إليها حول اسم العنقاء أن هذا الاسم لا يعني شيئًا بالعربية، وأنها استعارته فيما بعد عن السومرية كما فعلت بما لا يحصى من المفردات التي نظنها عربية وهي سورية قديمة ولا علاقة لها بالعربية الصحراوية.”
العنقاء ورمزية البعث والخلود
يقول المثل العربي الشهير (احترق فبُعث مجدداً من رماده) وهي في الأصل عبارة تصف العنقاء ذلك الكائن الأسطوري ذو الصدى الواسع في التراث الشعبي القديم لدى الكثير من الشعوب الممتدة جغرافياً حول العالم بداية من المصريين القدماء (الفراعنة) والسوريين القدماء (الفينيقيين) والإغريق والفرس والرومان والصينيين والهنود أيضا ، فتعددت الأسماء لكنها تكاد تتفق على ما تشير إليه، ولحد يومنا هذا ما زال له تأثير في الأدب والثقافات المعاصرة كرمز للتجدد والخلود رغم أنه لم يعد في صلب معتقدات الشعوب أو ثاني المستحيلات كما في الماضي. وقد كان يعتقد ان موطن العنقاء الأصلي هو الجنّة بعيدا عن الأرض حيث الجمال الذي لا تحدّه حدود ولا يتصوّره عقل. وفي الجنة لا يوجد مرض ولا شيخوخة ولا موت. ولهذا يعتقد ان الطائر العجيب ضحى بحياته الابدية ليحصل على الميلاد من جديد كل خمسمائة عام فبعد أن يعيش هذا العمر الطويل يصبح عليه ان يرتحل إلى الأرض حيث الموت والهلاك ، ثم الميلاد من جديد. ويقال إنه يشقّ طريقه باتجاه الغرب وعبر غابات بورما وسهول الهند إلى أن يصل إلى الجزيرة العربية حيث غابات التوابل والنباتات العطرية. وبعد أن يقوم بجمع بعض الأعشاب العطرية يواصل طيرانه باتجاه ساحل فينيقيا السوري. هناك فوق إحدى أشجار النخيل الطويلة يقيم عشّه وينتظر بزوغ الفجر التالي الذي سيعلن موته واحتراقه
ورمزية الطائر أسقطها القدماء على نظرية البعث بعد الموت وكان شعار ورمز للقيامة مرة اخرى بعد انهيار الدولة الرومانية.
وقد أخذت أيضا الديانة المسيحية حكاية العنقاء من الموروث الشعبي العالمي وأسقطت دلالاتها الفلسفية والروحية على السيّد المسيح “الذي ُقتل ثم عاد للحياة من جديد وهو ما حدث لطائر العنقاء، كما يذكر الإنجيل.
لقد جاءت حكاية العنقاء من الأسطورة وتحوّلت مع مرور الزمن لتتّخذ مضامين روحية ودينية وأصبحت رمزا لفكرة البعث، وهي الفكرة التي أصبحت ترتبط مباشرة بهذا الطائر الخرافي. واليوم نجد كائن العنقاء في كتب الأدب والأعمال الفنية والموسيقية، وكثيرا ما استشهد بها الشعراء في قصائدهم للاحتفاء بالموتى وتخليد ذكراهم.
هل العنقاء حقيقة أم خيال؟
وأخيرا يعتقد بعض الباحثين المعاصرين أن الفينيق (الرخ) طائر له وجود حقيقي وإن بالغ الأقدمون كثيراً في أوصافه أو حجمه وأنه يعيش على الأرجح في جزر وبحار ومحيطات الهند والصين، وله جناحين كبيرين من الريش، لونه داكن يميل إلى السواد، بيضه كبير وأفراخه كبيرة كذلك، وهو طائر قوي مفترس، لحمه يبعث الحيوية في جسم الانسان وكان هذا الطائر يعيش بمناطق نائية مهجورة فسيحة بربع الكرة الأرضية (الجنوبي الشرقي) حيث كانت هذه المناطق خالية من العمران ومن العوائق الطبيعية وبالتالي تشكل مجالاً ملائماً لحركة وطيران هذا الطائر العملاق، كذلك فان هذه البحار كانت تمد الطائر بغذاء وافر من الأسماك والحيوانات البحرية الأخرى وتشارك الجزر الكبيرة في هذه البحار بمده بأنواع أخرى من الغذاء الأرضي الكثير. والدراسات العلمية المعاصرة حول هذه الطيور العملاقة تشير إلى ان بعض أنواعها ظل باقياً حتى الزمن الحديث أي عاصر الوجود التاريخي للإنسان.
الكاتب
-
أمل فكري
كاتب نجم جديد