الفنانون والنكسة قبل أسبوع من 5 يونيو 1967م “إطلالة على جرح لم يندمل”

أصدر الرئيس جمال عبدالناصر في 23 مايو سنة 1967م قرارًا بإغلاق خليج العقبة، لتصل الأمور بين مصر والكيان الصهيوني إلى نقطة اللاعودة وتلوح في الأفق ملامح الحرب لتندلع في 5 يونيو من نفس العام وتنتهي نهاية مأساوية في 9 يونيو حيث إعلان الهزيمة.

جرح المدنيين من 5 يونيو 1967م

يتفق كل المدنيين الذين عايشوا تلك الفترة، أن الوجع الأكبر من يونيو 1967م ليس في مجرد الهزيمة العسكرية وإنما بسبب الخداع الكبير، وهو الشيء الذي عبر عنه نجيب محفوظ في لقاءٍ تلفزيوني قال فيه  «5 يونيه كانت خبطة شديدة جدًا الحقيقة، يعني مهما صورتهالك، مش على مسألة إنها هزيمة، أي جيش يصح ينتصر ويصح ينهزم، وكل بلد ولها انتصارتها وانهزامتها، إنما إحنا كنا وصلنا لدرجة إن اتهيئلنا إننا دولة عظمى».[1]

الشاعر أحمد فؤاد نجم عبر عن نفس الشيء وهو الخداع، بشكل أوسع خلال وثائقي شاهين ليه فقال «بعد هزيمة 67 كان الجرح غائر جامد يعني، ومعرفش إحنا ليه مكناش متوقعينه، مكناش متصورين إن دا يحصل، إحنا عملنا زي الصعيدي اللي خد على قفاه 30 قفا على سهوة، الناس بقت مش مصدقة اللي حصل، كأنه كابوس وهنصحى الصبح وهيطلع دا حلم وكابوس، فالواحد اتوجع أوي، فالمسألة كانت أليمة وقاسية، والأجيال اللي مشافتهاش محظوظة، يعني الجيل اللي مشافش دا محظوظ، لأن دا فيه ناس ماتت بيها دي وناس قعدت بيها وادمرت».[2]

كان الفن جزءًا من عملية الخداع للشعب وتحديدًا الغناء، ولا يتحمل الفنانون مسؤولية التورط في الخداع، فهم أيضًا كانوا مخدوعين، ولذا فإن مطالعة تفاصيل الحركة الفنية خلال تلك الفترة يعطي انطباعًا بذلك.

الفنانون والنكسة وأجواء الغناء في الأيام التي سبقت 5 يونيو

قبل النكسة بأسابيع قليلة أعلن الفنانون بالإجماع عن وقوفهم في قلب المعركة، وكانت الأخبار تشير إلى أن كل مؤلف وملح ومطرب ومطربة نظموا أنفسهم في كتيبة أنغام المعركة التي تقدم الأغاني الحماسية والأناشيد الجماعية والشعارات القصيرة، وأنهم سيشتركون في التجمعات الجماهيرية وسيتم سفر بعضهم إلى الأقاليم.

الصحفي الموسيقي مدحت عاصم كتب في ذلك مقالاً قال فيه « الأغنية المصرية مثلها مثل الشعب المصري دائمًا، تظهر أصالتها الكامنة في المواقف الحاسمة، تثبت وجودها، وهي تتحرك الآن من حالة الاسترخاء إلى حالة اليقظة، فنرى الشعراء والملحنين والمغنيين وقد ارتفعت هاماتهم وصلبت أعوادهم واتخذوا أماكنهم في مقدمة ركب الجهاد في معركة المصير».[3]

اقرأ أيضًا 
الدين والنكسة خلال أسابيع التعبئة المعنوية قبل 5 يونيو “قصص الدعاية والفعاليات”

من متابعة مجلة الكواكب في الأعداد التي سبقت يوم النكسة نجد أنه تم الإعلان عن 14 أغنية لأم كلثوم وعبدالحليم حافظ وماهر العطار وشادية وعبداللطيف التلباني وفايزة أحمد وشريفة فاضل ونجاة ومحمد رشدي.[4]

إلى جانب ذلك فإن جريدة الأخبار في أعدادها خلال أول 4 أيام من شهر يونيو 1967م ذكرت أن التلفزيون اتفق مع شادية ونجاة وفايزة أحمد وفايدة كامل ومحمد طه بالمشاركة في أناشيد التلفزيون وتم حل كافة مشكلات التسجيل وحجز المواعيد وتم إنشاء وحدة تسجيلات لمتابعة الأحداث وتنفيذها وتم التنسيق بين الإذاعة والتلفزيون على تبادل الأناشيد والأغاني الوطنية التي يسجلها كل منهما واختار التلفزيون 30 أغنية ونشيدًا من الإذاعة سيقدمها على أفلام، ثم زادت الأغاني إلى 60 أغنية، كما تقرر أن يقدم عبدالحليم حافظ يوميًا من إذاعة صوت العرب رسائل زجلية إلى جنود القوات المسلحة واشترك في كتابتها مع مجموعة من الزجالين في مصر.[5]

الفنانون والنكسة واللهوجة سيدة الموقف 

لا نستطيع القول بأن الفنانين قد أمروا بذلك، فالأجواء كانت أكبر من مجرد تنفيذ أوامر، والشعور الوطني كان أعلى من مسألة أن ينفذوا بالأمر المباشر تنفيذ عمليات تحفيز الروح المعنوية للشعب، لكن ما كان لشيء أن يتم دون إشرافٍ مباشرٍ من الدولة كون أن كل الكرنفالات تتم بدعمٍ منها وتحت إشرافها.

ذلك الدعم أو الإشراف المباشر أضفى بعض مظاهر اللهوجة في التنفيذ بشكلٍ متخبط، وهناك مشهد يضفي حالة اللهوجة والتخبط، فلأول وآخر مرة في حياتها، تقوم أم كلثوم بالغناء في حفلتها وخلفها ملقن يمسك ورقة ويذكرها بكلمات الأغاني، وحدث ذلك خلال حفلها في 1 يونيو 1967م بسينما قصر النيل خلال أداءها لأغنية الله معك.

إقرأ أيضا

سيباستيان هالر.. لو بقِيت لي لحظة واحدة فسوف أحياها لأقصاها

ومن مظاهر اللهوجة أيضًا ما ذكرته سامية عثمان محررة جريدة الأخبار قبل النكسة بـ 72 ساعة عن أن استديوهات السينما اندفعت بقوة لإنتاج أكبر عدد من الأفلام الروائية والتسجيلية في أقل وقت ممكن، مثل فيلم كله تمام يا أفندم والذي كتبه وصوره شيخ المخرجين محمد كريم في أقل من 20 ساعة من بطولة عبدالمنعم إبراهيم وعبدالوارث عسر ومحمد رضا وتوفيق الدقن.[6]

وقعت النكسة وأعلن عبدالناصر قرار التنحي، راسله الفنانون، ورغم أن قوى الشعب تمسكت بعبدالناصر مطالبين إياه بأن يستمر في منصبه ويصحح الخطأ، لكن ثقتهم بالفنانين باتت مزعزعة ولم يندمل الجرح منهم ساعتها إلا برفع عار النكسة عن طريق نصر 1973م.

[1]  نجيب محفوظ، برنامج الملفات السرية للثورة، ح22، ملف13، ج1، إنتاج التلفزيون المصري، إعداد وتقديم وإخراج طارق حبيب، مطلع التسعينيات.
[2]  أحمد فؤاد نجم، وثائقي شاهين ليه، ح7 الغضب، إنتاج شركة أفلام مصر العالمية، إخراج محمد شبل، 1995م
[3]  مدحت عاصم، في عالم النغم، مجلة الكواكب، ع826، يوم 30 مايو 1967م، ص31.
[4]  مجلة الكواكب، ع826، يوم 30 مايو 1967م، ص ص10–11؛ وانظر مجلة الكواكب العدد التالي يوم 6 يونيو من نفس العام، ص18.
[5]  جريدة الأخبار، أعداد أيام 1 و2 و4 يونيو 1967م، ص7 وص9.
[6]  سامية عثمان، الإنتاج السينمائي يندفع بقوة مع المعركة، جريدة الأخبار، عدد 2 يونيو 1967م، ص7