الفيلسوف
-
عمرو عاشور
روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...
كاتب نجم جديد
رغم سنه الصغير إلا أنه ينال إعجاب الأسطي أحمد. النجار يعجب بأصحاب العقول المستنيرة، وهذا الصبي واحد منهم.. وها هو قد انتهى من الثانوية العامة والتحق بكلية الآداب قسم فلسفة.
وسأله النجار بحيرة: “ولماذا اخترت دراسة الفلسفة بالذات؟! المجموع أم التنسيق؟”..
ورد الولد: “لا هذا ولا ذاك.. كل ما في الأمر أنني أحب الفلسفة، حين درستها في الثانوية العامة قد لنفسي هذا طريقي”..
وعلق النجار: “على كل حال الفلسفة أم العلوم كما أعرف.. ولكن، ماذا عن المستقبل؟ هل ستلتحق بالتدريس؟”..
وكان أستاذ حمام في الشاشة يعاني من التلميذات وإزعاجهن، وكان يصرخ معلقًا على قراءة البنت: الأسد كان هيموت من الغيظ.
وابتسم النجار غير أن الصبي لم يبتسم: “لا أفكر في التدريس، تلك مهنة بعيدة عني تمامًا!”…
والنجار يعرف جيدًا الولد ويعرف أهله، هو فقير الحال والتعليم أمل في وظيفة للتطلع إلى حياة أفضل، فسأل: “أومال هتشتغل في إيه؟ هل يوجد شركات أو مؤسسات تطلب فلاسفة للعمل فيها”..
ورد الصبي بخيبة أمل: “مافيش طبعًا”..
وتابع النجار: “ولا جمعيات ولا نقابات ولا حتى منح من الدولة”…
وابتسم الطالب بضيق: “الدولة لا تعترف بالفلاسفة لدرجة أنه لا يجوز كتابة فيلسوف في خانة البطاقة، أي أنني انتسب إلى علم ميت في تلك البلاد!”
وأحس النجار أن الولد في ورطة حقيقية، وأن مستقبله ماضي نحو مجهول، وأضاف الطالب: “ليس هناك معايير أساسًا تحدد إذا كان الشخص فيلسوفًا أم لا!”
وتساءل النجار: “لمَ أخترت تلك الدراسة إذن؟”..
وقال الطالب بهدوء: “لأنها كما قلت أنت (أم العلوم) وهي العلم الذي يبحث عن أسس التفكير السليم ونحن في حاجة ماسة إلى التفكير السليم.. ولكن على ما يبدو أن التفكير آخر ما يُشغل الشعوب العربية لذا فإنها دراسة دون جدوى”.
وكان النجار يفكر في الحياة والمعيشة ولقمة العيش، وسأل الولد: “ومن أين يقتات الفلاسفة؟”… وكان الطالب لا يعرف إجابة واضحة لسؤال النجار، وراح يفكر حتى قال: “لا أعرف… فالفلاسفة منذ عهدهم الأول وهم أهل منح وكروب، ولنا في سقراط مثال ونموذج، فالرجل الذي استطاع أن يغير تفكير البشرية عاش حياة قاسية ما بين فقر مدقع وزوجة سليطة اللسان ومكائد أدت إلى قتله في النهاية والحكم عليه بتناول السم”..
وتخيل النجار الحياة التي عاشاها سقراط، وكيف كان هذا الرجل دليل واضح على محبة العلم والاخلاص له لدرجة وأنه في ظل ظروفه الطاحنة كان يرفض مساعدات تلاميذه، وفي النهاية على ماذا حصل؟ كان القتل مصيره المحتوم.
وشعر بالأسف تجاهه وتمني للصبي نهاية مختلفة، أكثر رحمة! وكان الأستاذ حمام يفتش جيوبه بغضب، ويشهر منديله الممزق وهو يقول: العقد لو دخل من هنا هيخرج من هنا، يا عالم حرام عليكم، أنا رجل علم محترم مش وش الكلام دا أبدًا. وكانت المشهد مزيج مدهش بين الكوميديا والتراجيديا!
وقال النجار بحسرة: “وراح سقراط.. فماذا تبقي منه؟”…
وأجاب الطالب بيقين: “علمه! ويكفي ما سجله أفلاطون له وإن رجح البعض أن سقراط ليس شخصية حقيقية وإنما هو من وحي خيال أفلاطون كي يمرر من خلاله نقده للسلطة الحكامة!”.. وفكر النجار أن الفلاسفة أقرب إلى الأنبياء يعيشون من أجل الدعوة دون الطمع في منافع الدنيا، وأن الحضارات قد بُنيت على أكتافهم وبفضل أفكارهم!
ولكن الدنيا تغيرت وتبدل أحوالها وأصبح المال سيد العصر! وضربه سؤال مُلح: “أين اختفى الفلاسفة؟”
وظن أنه سيجد الإجابة عند صاحبه الطالب غير أن الطالب قال: “هناك مقولة شائعة تقول إن ابن رشد آخر فلاسفة العرب!”..
وسأل النجار: “لماذا؟ هل الفلسفة انقرضت بعد ذلك؟”..
وأجاب الفيلسوف الصغير: “بالعكس، بل شهدت نهضة كبيرة بأوروبا، خاصة في تلك الحقبة المعروفة باسم (عصور الظلام) وكان الفلاسفة وقتها يعتمدون على فلسفات العرب أمثال ابن رشد، ابن سينا، الحسن بن الهيثم، الكندي، الرازي…
وكانت تلك الفلسفة هي نقطة الشرارة الأولي التي اندلعت منها المقاومة ضد سلطة الكنيسة حينذاك، وبفضلها وضع حجر الأساس الأول للحضارة الغربية التي ننبهر بها اليوم ونسعي إليها في خيالنا فحسب!
إن الفلاسفة هم صُناع الحضارة الأصليون، وبغيرهم لا حضارة ولا علم ولا أمل في التغيير نحو الأفضل…
فالعلاقة بين الفلسفة والدين علاقة طردية فإذا طغي الدين وأصبح سلطة خفضت الفلسفة وأصبحت فكرة ومجرد الانشغال بها يجلب الاتهام بالزندقة والسجن وحجب الكتب والقتل أحيانًا، ولعل أكبر دليل على ذلك أن علماء العرب الذي سبق وأن أشرت لهم اتهموا جميعًا بالزندقة وحرقت كتبهم على الرغم من أنها هي من أسست لحضارة الغرب.
ربما يكون الغرب قد تقدم لأنه وقف إلى جانب الفلاسفة في حربها الشرسة ضد سلطة الكنيسة حتى انتصرت الفلسفة ثم العلم، فالعلم ابن الفلسفة البار.. بينما نحن نقف في صف السلطة الدينية في مواجهة أي فكر جديد.. ولكن هل اندثر الفلسفة عند العرب فعلاً…
أعتقد أنها لم تندثر بالرغم من تجاهل الجميع لدورها وتهميشها لمحبي هذا العلم واقصاء الدارسين بها، وإنما قد اتخذت صورًا أخري… أليس صلاح جاهين فيلسوفا؟ ألا يُعتبر نجيب محفوظ فيلسوفًا؟”..
وآمن النجار على كلام الفيلسوف الصغير قائلاً: “وتوفيق الحكيم، وطه حسين”.
وكان أستاذ حمام يقف خلف ستارة المسرح، يستمع إلى غناء عبدالوهاب وهو يبكي بقلب موجوع، فأشار الولد إلى الشاشة وهو يضيف: “ونجيب الريحاني أيضًا فيلسوفًا! كل واحد منا فيلسوف بطريقته”..
الكاتب
-
عمرو عاشور
روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...
كاتب نجم جديد