رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
1٬779   مشاهدة  

يا قلبي بكرا السفر وتغيب عن الأوطان..مسيرة الموسيقار القصبجي

القصبجي


أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة العاشرة من قصة الموسيقار الكبير نحيل الجسد قوي الفكر، المرحوم محمد علي القصبجي، وكنا قد انتهينا في اللقاء السابق حيث ثورة المرحوم محمد القصبجي الخالدة في ميدان قالب المونولوج بلحن إن كنت أسامح وأنسى الأسية والذي أرسى به محمد القصبجي دعائم هذا القالب وأسس لفن جديد آخذ في التطور عملا بعد آخر، واليوم نتحدث عن مونولوج يا قلبي بكرا السفر وتغيب عن الأوطان الذي ترجم حب القصبجي ورامي لأم كلثوم، فموضوع هذه الحلقة يعرض مشاهد وكأنها من فيلم سينمائي أبطاله الثلاث محمد القصبجي وأحمد رامي وكوكب الشرق أم كلثوم.

قصة المونولوج الذي جسّد حب رامي والقصبجي لأم كلثوم:

يعتبر مونولوج يا قلبي بكرة السفر وتغيب عن الأوطان من كلمات شاعر الشباب أحمد رامي وألحان الموسيقار الكبير المرحوم محمد القصبجي أحد أعمدة المونولوجات التي لحنت في القرن العشرين بلا منازع، والمتتبع لنتاج المرحوم محمد القصبجي مع كوكب الشرق يدرك جيدا عظمة الألحان التي قدمها القصبجي لها خلال تلك المرحلة، فقد بلغت أم كلثوم ذروتها الفنية منذ النصف الثاني من ثلاثينيات القرن المنصرم، فكان صوتها عجينة طيعة وظفها القصبجي لما طمح إليه من تطوير في الألحان، وكان مونولوج يا قلبي بكرة السفر وتغيب عن الأوطان الذي تغنت به الآنسة أم كلثوم لأول مرة في حفل حي في الثالث عشر من شهر أكتوبر من العام 1938م، بقاعة إيوارت التذكارية بالجامعة الأمريكية، أحد الأدلة التي أثبتت ذلك بصدق.

وقد قدمت تسجيل هذا المونولوج البديع صديقة كوكب الشرق أم كلثوم المرحومة عبدية عبد الله، ثم قام الموسيقار الكبير المرحوم عمار الشريعي بتجميع الاسطوانات الشمعية وتنقية الصوت لتخرج الأغنية بصورة جيدة تليق بأم كلثوم ومستمعيها، وقد استغرق هذا العمل من عمار مدة زادت عن ست ساعات، ودار حديث قصير بينه وبين مشيرة كامل قبل إذاعة الأغنية حكت فيه مشيرة كامل عن قيامه بهذا العمل وكأنه جواهرجي يرفع تراب الزمن المتراكم على قطعة من الماس، فأكد الشريعي المعنى الذي قصدته، وأضاف أنه أحس وكأنه جراح يعيد النبض إلى قلب هذا العمل وهو خائف عليه وكأنه قطعة منه، فكل من في هذا التسجيل أحبابه وأهله على حد تعبيره، أم كلثوم وما لها من قدسية في نفوسنا، ورامي الحبيب إلى قلبه، والقصبجي الذي وصفه بأنه عمنا وأبونا ومربينا.

فقالت له مشيرة كامل: أحس أن للموسيقار محمد القصبجي عندك معزة خاصة فقال الشريعي: أي حد بيحب الموسيقى لازم يحب القصبجي.

 

إقرأ أيضًا…محمود ياسين .. العملاق الذي تنكرونه

يحكي عمار الشريعي عن عظمة هذا العمل فيقول: ست ساعات مرت وكأنها ست دقائق، رغم الخوف على التسجيل، كنت أحس بالسعادة والمتعة، وطوال الوقت أقرأ الفاتحة إذا ما سمعت غناء عبقريا من أم كلثوم، أو جملة جميلة من رامي، أو قطعة موسيقية من القصبجي، أو عزفاً رائعاً من أحمد الحفناوي على الكمان، أو من عبده صالح على القانون، كنت أشعر وكأنني محضون من أحبابي وأهلي وناسي.

والحقيقة أن عظمة لحن هذا المونولوج هي ما دعت الشريعي للتعبير عنه بأنه فتحا مبينا للإذاعة، بل وربما للثقافة والموسيقى العربية كلها، ذلك أن المرحوم محمد القصبجي لم يلتق بأم كلثوم في لحن كبير أو بمعنى أدق بأغنية طويلة في قدر رق الحبيب سوى في هذا العمل، وقبل ظهوره لم يكن لهما سويا من الأعمال الطويلة سوى رق الحبيب وهو المونولوج الذي وصفه الشريعي في برنامجه الإذاعي غواص في بحر النغم بكبيرة القصبجي وأم كلثوم، وبقية أعمالهما معا كانت أعمال صغيرة مثل يا صباح الخير ياللي معانا وانتي فاكراني ولا نسياني وليه تلاوعيني وانتي نور عيني، لكن مع ظهور هذا التسجيل كانت تلك أول مرة يعرف الشريعي أن لحناً بتلك الجودة وهذه الصعوبة كان بين أم كلثوم والقصبجي، والذي قد يفوق لحن مونولوج رق الحبيب.

 

تعقيد لحن مونولوج يا قلبي بكرة السفر وعبقريته:

يبدأ المونولوج كعادته بمقطوعة موسيقية بديعة لا تقل في عظمتها عن ذكرياتي “مقدمة رق الحبيب” إن لم تتفوق عليها، ثم تبدأ أم كلثوم بشدوها “يا قلبي”، “بكرة السفر”، و”تغيب”بمدها وفقا للحن الذي وضعه القصبجي، “عن الاوطان”، واللحن قد وضع من مقام الراست ولكن بطريقة عجيبة، فاللحن مليء بالنقلات والتنوعات المقامية التي لم يكن يجرؤ أحد من الموسيقيين الذين عاصروا القصبجي أن ينفذها ولو على الورق، وما فعله القصبجي عموما في جملة هذا المونولوج هو جنون لا يصدق.

لذلك حين تحدث الشريعي عن هذا المونولوج قال: بعد إذاعة هذه الأغنية أرسل لي صديق رسالة يقول فيها بالحرف الواحد: مش أنت عمار الشريعي!! تقدر تقول لي الأغنية دي من مقام إيه؟
ويستطرد الشريعي: محمد القصبجي في هذا اللحن مثل الإكسبريس الذي لا يقف في محطات، حر منطلق لا يعوقه شيء، عمري ما شفته منطلق هكذا، سايق بلا فرامل، سايب نفسه في حالة وجدانية وحسية عالية جداً، بيعمل اللي هو عايزه، ناسي الجمهور، ولا يتذكر أمامه سوى أم كلثوم، وهو يعلم أنها ستغني أي شيء يلحنه لها، ولو وضع عفاريت في اللحن ستؤديه، سايب نفسه لدرجة لا تستطيع أن تحكّم منطق مقامي لمدة دقيقتين، يبتدي في حتة، ويروح لحتة تانية، عمال يتنطط،عمل تحويلتين جوه الغنوة مش متعودين عليهما، ولم يتكررا بعد ذلك، مقامين مش قرايب، لكنه خلق كوبري، ونفذ من هنا لهنا بطريقه لا يعرفها غيره، الله يسامحه عمنا محمد القصبجي دوخنا وراه تحليلا ودراسة.

والسؤال الذي فرض نفسه وأجاب عليه المرحوم عمار الشريعي كان منطقيا وهو:

إقرأ أيضا
عيد الأضحى دول الخليج

محمد القصبجي كان يستعرض في قدرته على الانتقال من مقام لآخر ببراعة من خلال لحن هذا المونولوج، فهل يستطيع ملحن آخر أن يفعل هذا، فيقول المرحوم عمار الشريعي بثقة: لا والله ولا حد من جيله، لا محمد عبد الوهاب ولا رياض السنباطي، ده راجل مفتري، يعني قاعد مش فارقة معاه حاجة خالص، رق الحبيب شفت ناس بيغنوها، لكن هذه الأغنية “يا قلبي بكرة السفر” أزعم أن مفيش حد يقدر يغنيها إلا أم كلثوم، لقد تذكرت الملحن السكندري محمد أبو سمار الذي مات دون أن يأخذ حقه مثل الكثيرين من فناني الإسكندرية، كان يغني على عوده أغاني من تلحين القصبجي في قاعة من قاعات قصر ثقافة الحرية بالإسكندرية، وتوقف عن الغناء والعزف فجأة وقال: أفضل من طور في الموسيقى في مصر سيد دويش ومحمد القصبجي ودهشت لقوله، فقد قرأت كثيراً عن سيد درويش وعن تطويره للموسيقى، لكن محمد القصبجي أول مرة أسمع عنه هذا الكلام.
قصة كتابة المونولوج:
قررت أم كلثوم أن تسافر للمصيف برأس البر وعلم أحمد رامي بذلك، فأمسك بقلمه وكتب: يا قلبي بكرة السفر وتغيب عن الأوطان، وتطول ليالي السهر في البعد والأشجان، وازاي أشوف القمر من غير حبيب قلبي ما يكون قريب جنبي، والنسمة تسري وتتكلم واحنا ساكتين والروح على الروح بتسلم والعين في العين.

ثم لحن القصبجي هذا اللحن الخالد، حبا في أم كلثوم، يقول الشريعي: هما بيحبوا أم كلثوم “يقصد رامي والقصبجي” وهي بتحب المغنى، فلما سافرت رأس البر، كان بالنسبة لرامي وقصب شيء صعب جدا ولا يحتمل، فكأن خروجها من القاهرة كان بمثابة خروج من الوطن.

 

لقد أحب رامي أم كلثوم، وأحبها محمد القصبجي وكانت ثومة هي قيثارته التي يعزف عليها ألحانه، لكنها حرمته من هذا العزف المحبب لقلبه ربما أكثر من عوده لسنوات طويلة فاكتفى هو بالعزف على عوده خلفها على كرسي خشبي ظل في موضعه حتى بعد وفاته.

وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة، على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسررو.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
4
أحزنني
0
أعجبني
1
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان