المشبوه .. مرايا حمودة الأعور
-
أحمد الفخراني
روائي وصحفي مصري
كاتب نجم جديد
ربما لم أتعلق بفيلم لعادل إمام قدر فيلم المشبوه، شاهدته مرات لا تحصى، وإن لمحته بالصدفة معروضا على الشاشة، تسمرت مكاني حتى أنهيه، وقد هزتني نفس المشاعر بنفس الطزاجة والقلق كأني أتذوقها للمرة الأولى. ما أن أسمع بداية الموسيقى التصويرية للفيلم، حتى أترنم مستكملا إياها تلقائيا، كأن الأذن وجدت أفيونتها، كأنها اصطادت نبرة ما داخلي، وأخرجتها إلى العلن، لا تُمل:
سارينة بوليس، إيقاع خطوات، مطاردة، بين مذنب وملاك عقاب، ثم حلم واسع بالإفلات والطيران، يعقبه تعثر وقلق يتصاعد من الأحشاء، الملاك يتقفى الأثر بلا هوادة، إذا ما اختفينا عن ناظريه يلازمنا الذنب كظل، لا نفلت، لا نطير، بل نتبين موضعا لقدمين على الأرض خارج دوائر الخطر، ولو لبرهة، وعد بفرصة ثانية. حيث كل ما يكفي هو غرفة تشع بالحب والدفء، لكن ثمة ثمنا لم يدفع، خطيئة لم تُكفر ومواجهة لم تتم، ماض أغمضنا عنه الأعين الذائبة في حلم الميلاد من جديد، لكنه حتما سيعود ليختزل حقيقتنا كلها في قناع لص، لن يرانا، فقد أطلق حكمه الذي لا رجعة فيه، يمتزج القلق بالأمل، التعثر بالطيران، يذوبان معا في سبيكة متناغمة صنعتها موجات متلاطمة وأنياب الدهر، كأنها الحياة وقد وجدت نبرتها أخيرا، عبر هذا الفهم سيتغلب ماهر وبطة على كل شيء، يمكن لنا أن نتغلب كل شيء.
ماهر وبطة، هكذا يلتقيان، في قاع الزلل، مطواة لص وباروكة عاهرة، تُسقط بطة مطواة ماهر ويُسقط باروكتها، كأنه إسقاط لقناعين لا يمثل حقيقتهما، بعدها لا شيء سوى الانسجام، يتبادلان التنكيت والهدايا ويشتبك مصيرهما، كأنهما يعرفان بعضهما البعض منذ الأزل، وسيواصلان الحب إلى النهاية. حتى بعد أن يصر الأخ، الضابط، أن الحقيقة الوحيدة التي يستحقانها أن يستمرا في الحياة بقناع اللص والعاهرة. معا ضد العالم.
لكن ليست قصة الحب وحدها، ولا الشخصيات التي تقاوم حبسها داخل أقنعة، ولا الموسيقى التصويرية ولا أداء عادل إمام، بالغ الرهافة في ذلك الفيلم، وملامحه التي تقطر رقة وعشقا، المكسوة بحزن نبيل، لا تزيدها لحظات الانكسار إلا كشفا لكرامة متأصلة، هي ما تجعلني أشاهد الفيلم مرارا وتكرارا، ما يربطني بذلك الفيلم حقا هو الرعب من اللحظة التي يواجه فيها حمودة الأعور، الأقرع سابقا، ماهر النمر بعينه العوراء، كي يطالب “بقية حقه”: عين ماهر.
الماضي يعود كمترصد، متربص، عشش طويلا في ظلمة أخطائنا، وجودنا لا يمثل له إلا جرحا يذكره بتشوه ما، ما يرغب فيه ليس عينا، بل حياتنا بأكملها.
لكن ما ينساه ماهر، أن حمودة هو مجازه وقرينه، صورة امتصت عنه أوزاره، وتشكلت كمسخ وشكلته هو كبطل، وما إنكار ماهر لمسخه إلا إنكار لصورته، الشبح حبيس المرآة وإطار لوحة كلوحة دوريان جراي، هو المصير المقترح لماهر إذا ما أمعن في خطيئته، فصارت هو. حمودة هو ما أراد الضابط أن يكونه ماهر، هو ما يوسوس به شيطانه، الأخ الأكبر في أذنه عن حقيقته، حمودة هو المسيح الذي صُلب من أجله، الطالع من قاع صندوق مغلق عليه بإحكام داخل سراديب الروح، بتعازيم التوبة والتحايل وتشبثه بحب بطة، لكن أيضا بإغماض العينين عن الخسة الكامنة في كل واحد منا.
خطيئة واحدة كانت تكفي لينطلق شبح المسخ من عقاله، ليتحول إلى ظل ملازم مترصد، يُكسى لحما وتصير له حياته المستقلة التي يتغذى فيها على الحقد والغضب ويعود ليواجهنا كعدو، لم تكن الخطيئة هي السرقة، بل الغضب والغرور، الإصرار على أن يميز نفسه عنه، وما رد الشر بالشر إلا ذروة هذا التمييز، في اللحظة التي فقأ فيها ماهر عين حمودة الأعور، كي يخبر نفسه أنه ليس مسخه، فقد – دون أن يدري – عينا، وتطابقت صورته أكثر مع قرينه.
لم ينج ماهر بالتوبة، بل في تلك اللحظة التي استسلم تماما فيها أمام نصل حمودة الأعور وهو يستعد لقلع عينه، حتى لو فعلها مجبرا لإنقاذ ولده، في تلك اللحظة استعاد عينه من قبضة المسخ، أعاده مكبلا إلى الصندوق المغلق في سراديب الروح.
الكاتب
-
أحمد الفخراني
روائي وصحفي مصري
كاتب نجم جديد