المنجد الأفرنجي .. مهنة فنان الكنَب !!
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
برغم سنوات عمره التي تخطت السبعين، جلس بمطرقته وأزميله في ريسبشن منزلنا، ممسكًا بين فخذيه كراسي الأنتريه ، يدق بحرص بين الخشب والقماش، ويقول لي مبتسمًا : الفك فن برضه خدي بالك !.
يجر الفوتيهات ويقلبها بين يديه بخفة ويتابع : فيه ناس بتفك بهمجية، وبيكسروا الخشب.
وبرغم تلك الأخاديد المحفورة فوق وجهه والتي رسمها الزمن والشقاء، إلا أنها لم تخفي تلك الابتسامة الجميلة الراضية التي تطل من عينيه الوديعتان.
عم عبد القادر الشهير بعم عبده، ذلك الرجل المهذب البشوش خفيف الظل، الملتزم بمواعيده، المهاود في مصنعيته، الصادق والصديق لعائلتي، والذي يعرف ويعرفه كل أفرادها، ويعرف أيضًا كل شبر وجميع المحلات في منطقة محرم بك، يتحدث عن زمنه الجميل وعن مهنته، يتكلم في السياسة والفن بلباقة ربما لم أشهدها في أحد قبله، يقول في تواضع : أنا خرجت من المدرسة وأنا في تانية ابتدائي بس بنعرف نقرا ونكتب ولا أجدعها خريج من الجامعة، وعندي المقدرة بإذن الله إني أتكلم في أي موضوع ياخدني ليه الحديث.
يحكي عن من نجد لهم الأنتريهات والصالونات، والكثيرين ممن ركّب لهم ستائرهم وعلقها بيديه المحترفة، ضحكت قائلة : ده إنت نجدت لنص شارع بوالينو يا عم عبده !!
ابتسم وهو يقص القماش ثم شرع يتكلم : زمان حشو الأنتريه والصالون المدهب كانوا بيبقوا بالقطن والقش، دلوقتي المقاييس اختلفت خالص، وطلعت موضة الإسفنج والفايبر، مع إن الأسعار أغلى بكتير والجودة بقت أقل، وكانت فيه مواسم شغل عشان الزباين تجدد عفش الشقة، دلوقتي كله بقى بيوفر وبيحافظ على العفش حتى لو كان متبهدل ومتهالك.
تبدأ رحلة التنجيد باختيار صاحب الأثاث للقماش المناسب له ولألوان الغرفة، وكذلك شراء قماش البطانة، ويعتبر شارع العطارين وشارع فرنسا بالإسكندرية المصدران الأساسيان لجميع أنواع الأقمشة، ثم يقوم المنجد باختيار الخامات المراد استخدامها في التنجيد والتي أصبحت الآن غالبًا تنحصر في الفايبر والإسفنج، فهنالك الإسفنج المتوسط والعالي الكثافة وهو الذي يتحكم في سُمك وسائد الجلوس لتتحمل الاستخدام اليومي، ويستخدم الفايبر في الوسائد الصغيرة الموضوعة على الكنب.
شارع فرنسا
وحين سألته لما لم يتعلم أولادك المهنة منك، أجاب وهو يضحك: عشان انا طبعي صعب، وهما مبيتحملوش النرفزة.
في العهد المملوكي وبسبب ازدهار الفنون المعمارية والجمالية التي ابتكرها المماليك خارج وداخل بيوتهم، نما فن التنجيد، وقد اشتهر بشكل أكبر في عهد محمد علي باشا، نظرًا لتأثره بعصر النهضة في أوروبا، وإهتمامه بالآداب والفنون، وإهتمامه أيضًا بإنشاء المدارس ومعاهد الهندسة بمصر، كما اهتم كذلك بتطوير أصحاب الحرف والمهن المصرية في كافة المجالات.
اقرأ أيضًا
عندما ساهم الأزهر في تعليم الصنايع لدول أوروبا “حدث بالفعل من 273 سنة”
وقد انتقلت الفنون الأوروبية بمدارسها الفنية المختلفة وأذوقاها إلى مصر، نظرًا لتشجيع الجاليات الأجنبية المغرمة بالفنون في مصر إلى الوفود إليها، وحركات التنوير والوفود المصرية التي أوفدها محمد علي باشا لانتقال تلك الفنون، ومنها تنجيد الصالونات وقطع الأثاث داخل القصور الملكية، وازدهارها عبر القصور الخديوية والقنصليات الأجنبية، ثم انتقالها لبيوت الطبقة الراقية والموسرين من الطبقات الإجتماعية المتوسطة، حتى ازدهر فن التنجيد في العصر الحديث ودخل سائر البيوت في المدن والقرى المصرية.
ابتسمت وأنا اختتم حديثي معه وسألته وهو يواصل مهمته في تثبيت قماش الأريكة الجديد وشده :هو ممكن أكتب عنك مقال يا عمو وأصورك وإنت بتشتغل ؟
لمعت عينيه وترقرقت دمعات خفيفة بهما، وقال مبتسمًا : ده أنا يبقي ليا الشرف، بس أنا مستحقش كل ده !!
ربت على كتفه ونهضت لأكتب تلك السطور الموجزة عن عم عبده، المنجد الأفرنجي….فنان الكنَب.
الكاتب
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
عم عبده راجل خلوق وطيب ومحترم.بصراحة عمره ما زعل حد.الناس البركة اللى زى عم عبده ربنا يديهم فى حياتنا نعمة.ربنا يديك الصحة يارب ويبارك فى عمرك