همتك نعدل الكفة
1٬323   مشاهدة  

المواطن منقذ سباحة

المواطن منقذ سباحة
  • شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال



المشهد الختامي لعلاقتي بشغلانة المنقذ، لا ينسى، خصوصًا أني شوفته في عيون اتنين حبّيبة قاعدين ع الكورنيش، وفجأة لقوا قدامهم واحد إسود شايل شنطة مفتوحة طالع منها هدوم وبيجري بالمايوه في الشارع.

الموقف ده وغيره كتير، إلا أن أكتر حاجة مستحيل أنساها أني اشتغلت الشغلانة دي لفترة مش قليلة ومافيش حد، أكتشف أني مابعرفشي أعوم.

الطريق للمشهد العجائبي ده بسيط وعادي جدًا.. الفلوس أزمة مابتخلصشي، لأن الإنسان في عالمنا من غيرها مايعرفشي يعمل أي حاجة، فالإنسان المفلس -خصوصًا في المدينة- بيبقى زي أي جهاز فيشته متشالة، عشان كده خلال حياتي الملخفنة اشتغلت حاجات كتير، اضطريت أعمل حاجات كتير عشان أخد ورق البنكنوت اللي بيتطلب مني طول الوقت، حاجات ماتهمنيش زي بيع تبغ تصنيع المعسل بالجملة والقطاعي أو مندوب مبيعات لتوزيع أدوات التنضيف.. إلخ، حاجات مابحبهاش زي تنضيف المداخن أو مسح الأحذية أو العمل كمساعد إنتاج، اشتغلت حتى حاجات ماعرفش بتتعمل إزاي زي دي.

في فترة من حياتي كان عندي إصرار عجيب إني هبقى ممثل مسرح، ولأن الطموح زيه زي التمثيل في عروض نوادي المسرح، طاقة غير مدفوعة الأجر، كان لازم أرشق في أي شغلانة تانية من اللي بتجيب فلوس، وفي إحدى فترات البطالة الطويلة والكتيرة.. اتعرفت على واحد بيشتغل في قرية ألعاب مائية على كورنيش حلوان، والألعاب المائية أياميها كانت يادوب شوية زحاليق مبلولة بتنتهي في حمام سباحة، المواطن ده لما عرف إني بهوْهو على أي شغلانة قال لي إنهم محتاجين ناس، وسألني:

  • بتعرف تعوم؟

رديت بمنتهى الثقة:

  • لهلوبة… طول ما رجلي لامسة الأرض لهلوبة.

شخَر وابتسم وهو بيقول:

  • تبقى محلولة.

لإنه كان جدع وعايز يساعد، ولإنه كان كابتن الشيفت، ولإنه من صلاحيات منصبه توزيع المهام اليومية على الاسطاف، فكان دايمًا بيكلفني بلعب دور المنقذ على حمام الأطفال، وبقت شغلتي إني أقعد طول النهار بالمايوه وعيني على الأطفال، وأول ما أحس أن أي عيل بدأ يبقْلل أنزل فورًا أجيبه من قفاه وأطلعه.

***********

صاحب المكان كان لواء، ماعرفش فين بالظبط، المهم إنه بطبيعة الحال كان مريض بالإشراف والسيطرة، وفي نفس الوقت ماكنش بييجي علينا تفتيش من أي جهة رقابية من أي نوع، لا سياحة ولا شرطة ولا تأمينات ولا أمن صناعي ولا غذائي، ولا أي كائن من أي نوع، بس الشهادة لله الدور الرقابي كان بيلعبه السيد صاحب المحل بنفسه، كان بييجي المكان بشكل شبه يومي في مواعيد غير ثابتة، ما جعل زيارته للمكان معروفة شعبيًا باسم “الكَبْسة”، ونادرًا ما كانت أي كَبْسة من كبَساته المتكررة تمُر بدون خصومات.

في واحدة من الكبسات المبغاتة اشتكى أحد أعضاء اسطاف العمل للسيد الجنرال من إنه طول الوقت بيقوم بتنفيذ المهمة الأصعب في العمل، ألا وهي الحفاظ على التراك حوالين حمامات السباحة مبلول طول الوقت، ومايسمحشي أبدًا للشمس إنها تنشفه وتسخن الأرضية، والعملية كانت بتتم Manual، بمعنى أن الشاب يا كبدي بيمشي طول النهار معاه جردل بلاسيتك ياخد به من البيسين ويغرّق التراك اللي حواليه، فبصراحة شكوته كانت منطقية جدًّا وقضيته عادلة تمامًا، خصوصًا وإن الحلول بسيطة ومش مُكلفة لمكان بالشكل ده، ينفع مثلًا يبقى فيه مواسير خفيفة مخرمة وراكبة داير ما يدور حوالين كل بيسين، فبمجرد ما تتفتح فيها المية تغرق المنطقة، أو حتى خرطوم طويل نسبيًا يستخدمه الشاب الشقيان ده زي أي جنايني بدائي.

لكن ولإن عقلي مستحيل يبقى زي عقل جنابُه ماقدرتش أتوصل للحل العبقري الموفِر اللي هو لقاه في أقل من ثانية، سيادة اللواء بعبقريته الفذة وخبراته المتراكمة أوجد لهذه المشكلة التقنية حل إداري، آه ورحمة النعمة، فقد أصدر سيادته الأمر بتدوير أعضاء الاسطاف على المهام اليومية، مرددًا الحكمة العسكرية العظيمة:

  • المساواة في الظلم.. عدل.

بعد الأوامر العليا بتدوير المهام ماعادتش شغلانة انتشال الأطفال الهبلة من البيسين مهمتي الدائمة، إنما جربت أبقى مسئول عن “اللوكرات”، وكانت البهجة مرتبطة طبعًا بالقسم الحريمي.. حيث أكبر قدر ممكن من المليطة النظرية المجانية، كمان لقيت نفسي مسؤول عن تنضيف دورات المية وأماكن الاستحمام، بس كله كان يهون في سبيل الحفاظ على فرصة العمل، كمان الشغلانة دي تحديدًا كانت فيها ميزة عمرها ما توفرت لي في أي مرحلة من حياتي، وهي أني أعيش باللباس.

***********

الحدث الفاصل كان يوم مهمتي فيه هي الوقوف فوق المنط بتاع الشلالات، وهو عبارة عن أنابيب عملاقة بيتزحلق فيها الزباين فينزلوا يطشوا في البيسين.

في اليوم الموعود وصلت متأخر.. يادوب دخلت من الباب جري على اللوكر بتاعنا أقلع والبس المايوه، صاحبي الكابتن، ومن على باب اللوكر، قال جملة واحدة بس:

  • ع الشللات فوق بسرعة.

في أقل من 3ق كنت في الموقع المطلوب، وكان يعتبر زحمة فعلًا، حوالي دستة أطفال في أرخم سن عرفه الإنسان، من 12 إلى 15 سنة، زميلي اللي واقف على البيسين بتاع الشلالات أول ما شافني استعجلني بعينيه، ولما عديت من جنبه قال كلمة واحدة بس:

  • كَبْسة.

طلعت السلم الطويل بسرعة.. في الطريق، ولأن السلم ضيق، زِحت طفل طالع بيتعولق وحاجز وراه طفلين تانيين من أصحابه ومانعهم يعدوا منه، الطفل شتم وأنا عملت من بنها، ووصلت بسرعة لمكاني.. وشاورت للكابتن من فوق.

وصل الطفل السمج ووراه باقي الشلة، اتساخف عليهم وشتم تاني في السُّود بشكل عام، وأنا، بوصفي بُنّي 33 مش إسود، ما اهتمتش بكلامه نهائي، كمان مش من الحكمة أني أعمل مشكلة مع عيّل سخيف وطبعًا هو ابن حد من الجيست اللي كلهم زباين مكان، والسيد صاحب المحل هيكون في صفّهم.

***********

فضلت منقوع في الشمس من غير إزازة مية أشرب، من الاستعجال نسيت آخد معايا، ومن غير تندة تحوش الشمس لسبب أنا بقى مش عارفه، والعيال طالعين نازلين بلا كلل أو ملل، والطفل السمج مستمر في التعامل بدون رباية أو أدب، وكان بيتعمّد يقترح على الباقيين يتزحلقوا بالحركات الممنوعة -لضمان السلامة- فأضطر أتدخل وأرفض وأفضل أهاتي.

كنت باستغل فترة اختفائهم، خلال رحلة الهبوط السريعة والصعود البطيئة نسبيًا، في محاولة التواصل بالمشاورة مع أي حد من تحت عشان يجيب لي أشرب ويشوف التندة راحت فين؟ بس الموضوع ماكانش ناجح، وفي نفس الوقت مش قادر أنزل عشان الزباين اللطاف اللي بيلعبوا لو حصل لحد فيهم حاجة ولا حد شافهم بيتزحلقوا بطريقة مش آمنة أنا اللي هاشيل طين، ده غير أن الحركة في حد ذاتها مخاطرة كبيرة وقت الكبسات، لأن اللواء لو قابل حد بيكون أول سؤال له: أنت شغلك فين؟، ولما يعرفه بيسأل فورًا: ورايح فين؟

ولو ماكانشي فيه علاقة بين مهمتك اليومية وبين المشوار اللي رايحه أو خط السير اللي أنت ماشي فيه يبقى فيها 3 أيام من مرتبك اتوفروا لخزينة جنابه.

أخيرًا الأطفال اتزحلقوا بلا عودة، فضلت باصص عليهم لما اتفرقوا وراحوا اتهدوا جنب أهاليهم يشحنوا أي سندوتشات ولا عصاير، أخيرًا بقى ينفع أقول أن مافيش حد بيلعب عندي وأني رايح الحمام، خدت السلالم جري.. ومشيت من الشلالات للوكر بتاعنا بأعلى سرعة مسموحة، ع الباب قابلت الطفل السمج اللي وقفني بسخافة منقطعة النظير وسألني:

  • رايح فين؟

رديت ببرود:

  • رايح الحمام.. هتعوز حاجة؟

بدون تردد للحظة رد بغلاسة وكيل مدير إداري في التأمينات:

أنا رايح أنط من الشلالات ومش لاقي حد فوق..

أدوّر ع الكابتن يطلع معايا ولا أروح الإدارة أسألهم؟

كأي كلب عويل رجعت مع الطفل السمج، وفي الطريق بقيت شايف زمايلي بس بعيد مش قادر أكلمهم، وممنوع حد ينده بصوت عالي إلا الكابتن، وواضح أني وقعت مع طفل مافيش حاجة تسعده غير الإحساس بقمع البشر، لدرجة أن أصحابه رجعوا وحاولوا يقنعوه يروح يلعب معاهم في أي داهية تانية لكنه رفض بإصرار عجيب وفَضَّل يلعب لوحده في سبيل إنه يبضن عليا، حمدت ربنا أني ماكنتش مزنوق فعلًا، وأديني قادر أصبر ع الشمس والعطش، وإلا كان زماني سَمّيت الوغد ده أو طَرّطَرّتِلّهُم في الزحاليق. فضل الطفل السمج يلعب ع الشلالات لوحده.

إقرأ أيضا
نهاية العالم

***********

أخيرًا، وبعد قيمة ساعة، صبري تفوّق على سخافته أو يمكن الظروف خدمتني، المهم أن واحدة -واضح إنها المُربية- أخدته وغاروا بعيد عن الشلالات، أخيرًا قدرت أنزل تاني جري.. وصلت اللوكر نتشت أم إزازتين مية.. وبلغت أمين اللوكر أن تندة الشلالات مش موجودة.. وأخدت فوطة صغيرة ورجعت تاني جري.

عند سلم الشلالات لقيت سيادة اللواء في خلقتي ومعاه الطفل السمج، وعرفت من جنابه إن الطفل عايز يلعب في الشلالات وخايف فكان بيدور على المسؤول فوق، فاعتذرت وبلغته أني فوق من أول الشيفت من غير تندة.. وأني استغليت فرصة أن الطفل ده نفسه بياخد هدنة من اللعب هنا لأول مرة.. فنزلت أبلغ أني بدون تندة، تقبل اللواء اعتذاري على مضض وبدون ما ينتبه لنظرة شمّاتة وتوعد في عين الطفل، وقالي بنبرته الثابتة:

  • طب خليك مكانك بقى.. وخد بالك من الولد عشان بيخاف.

 ثم عرفني معلومة هامة جدًّا، هي أن هذا الوغد من ذاك اللواء.

***********

طلعت مع صغير اللواء وفضل يتزحلق لوحده ويرخم على اللي جابوني يمكن كمان ساعة، لغاية ما أقنع واحد تاني من أصدقائه يلعب معاه، طلع صغير اللواء ومعاه صديقه الـمُنقاد شايل في إيده شوب عصير، صغير اللواء نط في الشلال والمنقاد فضل بيشرب في العصير وأنا ماليش فيه، ومع عودة الوغد كانت بداية النهاية.

صغير اللواء سأل المنقاد:

  • ليه ماتزحلقتش؟

فتحجج المنقاد بالعصير، فما كان من صغير اللواء إلا أنه شاور عليا وقال:

  • خلي الخدام ده يشيلهالك لحد ما نرجع.

***********

بعد ما سفخته بالألم على سحنته اللعينة.. ماعدش ينفع أتراجع، هبدته دماغ لا يُأخَذ بعدها ثَانِية وشخطت في المنقاد أهدده إنه لو فتح بُقه هارميه من فوق، ورميت نفسي في الشلال لأول مرة من يوم ما اشتغلت في المكان، في ثواني كنت باطلع من البيسين وباجري في اتجاه اللوكر، بدأ المنقاد يصرخ من فوق وأنا بالظبط بادخل اللوكر، لقيت في وشي صديقي الكابتن، اللي أول ما سمع مني جُملة:

  • ضربت ابن اللوا

رد بكلمة واحدة:

الكاتب

  • المواطن رامي يحيى

    شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
5
أحزنني
2
أعجبني
4
أغضبني
2
هاهاها
6
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان