يدرك القارئ عظمة ذلك الموسيقار الكبير..حكايات “محمد القصبجي”
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
:
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة الثامنة من قصة الموسيقار الكبير نحيل الجسد قوي الفكر، المرحوم محمد علي القصبجي، وكنا قد انتهينا في الحلقات السابقة من الحديث عن نشأته الفنية وبداية تعاونه مع أم كلثوم ثم تحدثنا عن تفرده بين جماعة الموسيقيين وانفراده بأسلوبه الخاص، وأشرنا إلى صورة عامة لمشوارة الفني وقلنا أن الهدف من تلك النظرة العامة هو أن يدرك القارئ عظمة ذلك الموسيقار الكبير فترتسم أمام عينية ملامح سيرته عند الحديث عن تاريخه وفقا للتتابع الزمني للأحداث، واليوم نبدأ مع نقطة في غاية الأهمية، ألا وهي خصائص فن هذا الموسيقار العبقري.
خصائص فن الموسيقار الكبير محمد علي القصبجي:
ميز النتاج الفني للموسيقار الكبير محمد القصبجى عامل مشترك واحد وهو أنه تضمن أعمالا سابقة لعصرها فى الأسلوب والتكنيك، وأضاف من خلاله للموسيقى الشرقية ألوانا جديدة ومختلفة من الإيقاعات والألحان سريعة الحركة والجمل اللحنية المنضبطة البعيدة عن الارتجال، صحيح قد يعوق هذا النوع المنضبط قدرة الفنان على التحرك بسهولة ويسر بين أغصان العمل، إلا أن المرحوم محمد القصبجي لم يكن ليترك العمل جافا أمام الفنان، ويمكن القول بأنه استعاض عن تلك النقطة بفكرة الصعوبة في خلق الجملة اللحنية المبهرة والتي نعبر عنها دائما بفكرة المران في الإنتاج، والتي في الغالب لن يحتاج المطرب معها للاجتهاد أثناء الغناء، فضلا عن أن هذه الطريقة تتطلب عازفين مهرة على دراية بأسرار العلوم الموسيقية، كذلك أضاف المرحوم محمد القصبجي بعض الآلات الغربية إلى التخت الشرقى دون أن يؤثر ذلك على طعم ولون الموسيقى العربية، وهو ما ترتب عليه ارتقاء مستوى الموسيقى والموسيقيين في الوقت ذاته.
الموهبة التي خلقت الشهرة لكبار المطربين:
بالإضافة إلى الأجواء الرومانسية الحالمة التى أجاد المرحوم محمد القصبجي التحليق فيها، فقد اكتسبت ألحانه شهرة واسعة وجمهورا عريضا ربما منذ بداية العشرينات، لذلك كثيرا ما أقول أن أعمال القصبجي يمكن وصفها بأنها حملت أم كلثوم إلى القمة، لا أعرف هل سيتفق معي البعض أم لا، ولكن لا أظن أبدا أن الالحان التقليددية الأولى للشيخ أبو العلا محمد كانت قادرة على حمل كوكب الشرق إلى تلك القمة، وبالأولى ألحان الطبيب الهاوي أحمد صبري النجريدي، فالبداية الحقيقية لأم كلثوم مع الألحان الصعبة والمركبة إنما كانت مع المرحوم محمد القصبجي، كل ذلك دون التقليل أبدا من فضل الموهبة الصوتية لأم كلثوم وغيرها من المطربين والمطربات، ذلك أن أصوات كصوت أم كلثوم وفتحية أحمد وأسمهان وصالح عبد الحي وليلى مراد ونور الهدى كلها كانت بالنسبة للموسيقار محمد القصبجي وسائط ممتازة وقيمة قدم من خلالها ما أراد للجمهور، وقد ساهم هو فى صنع تلك الأسماء وشهرتها بلا أدنى شك.
إقرأ أيضًا…إلى روقة أسطورة “القرمطة الكروية”..الكرة المصرية لها ليس عليها
موسيقى محمد علي القصبجي المنفردة:
بما لن يسعنا المقام للحديث عن نتاج الموسيقار محمد القصبجي في ميدان المعزوفات الموسيقية في هذه الحلقة، إذ أننا بصدد الحديث عن خصائص فنه ومميزاته، وإن كنا سنفرد حلقة فيما بعد للحديث عن مقطوعاته الموسيقية، إلا أنه يتعين علينا أن نشير إلى أمر هام جدا بخصوص تلك الموسيقى، فموسيقى المرحوم محمد القصبجي التى لم تقترن بأصوات كمقدمات الأغانى وبالأخص المونولوجات بعد تطوريها على يديه وبفكره الجديد، كمونولوج يا عشرة الماضي الجميل ومونولوج إن كنت أسامح وانسى الأسية ومونولوج يا قلبي بكرة السفر وتغيب عن الأوطان ومونولوج رق الحبيب، كذلك ما تخللها من لوازم موسيقية أو نقلات من أجل التنوع المقامي، قد جسدت مثالا واضحا لما يطمح إليه محمد القصبجي من تطوير، وبالفعل نجح القصبجي فى تقديم أفكار موسيقية جديدة فتحت الباب للتنويع والابتكار واستفاد منها كل الموسيقيين في عصره والعصر الذي جاء بعده، بل وشهدوا له بهذا التطوير الذي عد مدرسة جديدة في الموسيقى العربية.
وفي هذا الصدد لابد أن نشير إلى مقطوعة بديعة من مقطوعاته الموسيقية وهي مقدمة مونولوج رق الحبيب والتي استقلت تحت اسم ذكرياتي، وفيها غير محمد القصبجي القالب التركى القديم من ميزان السماعى إلى إيقاعات متنوعة وإن احتفظ فيها بالتسليم الذى تعود إليه الموسيقى فى النهاية، وهو أمر لم يكن قد سبقه إليه أحد من الموسيقيين المعروفين في ذلك الوقت، وتباينت مقاطعها بين الوحدة الكبيرة والعزف المنفرد على العود غير المصحوب بإيقاع، وفى نهاية المقدمة الموسيقية مقطع شبيه باللونجا، ولك عزيزي القاريء أن تتخيل أننا مع هذا الوصف نتحدث عن مقدمة موسيقية لمونولوج، ولسخرية القدر يكون هذا المونولوج الذي اشتمل على تلك المقدمة العبقرية هو آخر ألحان محمد القصبجي لأم كلثوم، لتحل بعده الأزمة بين القصبجي وأم كلثوم.
القصبجي وتطويره الذي خدم مزاجه الموسيقي:
اتسم اسلوب الموسيقار الكبير محمد القصبجي بالشاعرية، وارتبط اسمه بالوجدان، وقد اختار لألحانه أفضل الكلمات وأرقها، وقد اجتذب على الأخص جمهور المثقفين والطبقة المتوسطة التى كانت آخذة فى النمو فى ذلك الوقت، ولم يكف عن مشواره في التطوير والتجديد إلى نهاية حياته.
وعلى طريق تطوير الأداء الموسيقي استخدم القصبجى آلات غربية مستحدثة على التخت الشرقى فأضاف صوت آلة التشيللو الرخيم والكونترباص المستعملتين فى الأوركسترا الغربى من العائلة الوترية ذات الحجم الكبير، وهو ما ذكرناه في الحلقة السابقة عند الحديث عن تخت محمد القصبجي، وهذه الآلات لا تصاحب المطرب فى أدائه على عكس بقية أعضاء التخت، وإنما تصدر نغمات مصاحبة فى منطقة الأصوات المنخفضة مما يعطى خلفية غنية للحن الأساسى، وهو ما أعطى في النهاية عمقا لأداء الفريق لم يعهد من قبل فى الموسيقى الشرقية التى طالما اعتمدت على التخت الشرقى البسيط المكون عادة من العود والكمان والقانون والناى بالإضافة إلى آلة إيقاع “الرق”، وهذه الإضافة بلا شك تبرهن على أن محمد القصبجى كانت له طموحات موسيقية جاوزت حد التلحين والغناء، فالقصبجي قد أراد تطوير الأداء كله، القصبجي أراد تقديم صورة جديدة كليا في الموسيقى.
كان محمد القصبجى صاحب مدرسة خاصة فى التلحين والغناء ولم يقلد أحدا في ألحانه، وقد صنع فى ألحانه نسيجا متجانسا بين أصالة الشرق والأساليب الغربية المتطورة فكان بذلك مجددا ارتقى بالموسيقى الشرقية نحو عالم جديد، واهتم كثيرا بالعنصر الموسيقى إلى جانب العنصر الغنائى فى أعماله، وكما هو الحال مع الرواد فإن ألحان القصبجى ما زالت تردد لليوم، وكثير من أغانى القصبجى شائعة ومحبوبة لخفة ألحانها ورشاقتها وسهولة أدائها، ومما ينبغي ملاحظته هنا، أنا هناك فارق كبير بين خفة الألحان ورشاقتها وبين كونها ألحانا صعبة الإنتاج عبقرية الفكر، فألحان القصبجي التي تصل للأسماع بسهولة وتتلقفها العقول والقلوب بيسر هي ألحان بلغت في تعقيدها الفني مبلغا كبيرا واحتاجت تفكيرا معقدا لإنتاجها.
وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة، على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال