
المُستغرب من الحديث.. في ضوء تقديم النقل على العقل

-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
في ظِّل المُستغرب من الحديث يقف سؤال “العقل أم النقل” ليلعب دور الجدلية الأبرز التي اختلف المسلمون حولها، فتفرقوا إلى ثلاث: من يقدمون النقل وينفون العقل، ومن يقدمون العقل على النقل.. حتى ما ثبت في الوحي، وأخيرًا من يقولون بعدم وجود تعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح.
والأخير هو ما تصالح عليه غالبية جمهور الفقهاء عند أهل السنة والجماعة حاليًا، وهو ما جسده ابن تيمية (1263 – 1328م) في كتابه “درء تعارض العقل والنقل“.

الطريق الثالث
بأخذ الطريق الثالث كمثال للبحث بعيد عن طرفي النقيض، نجد إن داخل هذا الطريق الوسطي يوجد فريقين بينهم شيء من الاختلاف؛ حول سؤال: ما العمل حال تعارض النص المنقول مع مقتضى العقل.
أولًا ترجيح العقل:
في الفتوى رقم 7362 الصادرة عن دار الإفتاء المصرية، في مارس 2014، بخصوص موقف الأشاعرة والماتريدية من مسألة العقل والنقل، يستهل أ.د/ شوقي إبراهيم علام، فتواه بتعريف العقل:
“وظيفة العقل هي معرفة ماهية وصفة الواقع، ومعرفة الأمر في نفسه على حسب قدرة البشر من دون ترتيب حكم تكليفي عليها، فنحن نستخدم العقل عن طريق النظر في العالم الخارجي للتعرُّف على وجود الله، أي: على أنَّ الله موجود، ولكنَّ وجوب الإيمان بالله تعالى بحيث يعاقب مَن لا يؤمن ويثاب مَن يؤمن إنما يُعْرَف من الشَّرع لا من العقل“.
وهو بذلك يُعلِّي من شأن العقل في التدبر والتفكير ومعرفة ماهية الأشياء، لكن عند الحديث عن الإيمان يُحيل الأمر للشرع لا العقل.
وعند الكلام عن حدوث تعارض بين ما هو نقلي وما هو عقلي أقتبس من “أسس التقديس” للإمام الرازي (1150 – 1210):
“اعِلَم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك، فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة:
- إما أن يصدق مقتضى العقل والمنطق فيلزم تصديق النقيضين -وهو محال-.
- إما أن نبطلها فيلزم تكذيب النقيضين وهو محال.
- إما أن نكذب الظواهر النقلية، ونصدق الظواهر العقلية.
- إما أن نصدق الظواهر النقلية ونكذب الظواهر العقلية وذلك باطل“.
واستند الإمام الرازي في هذه النقطة الرابعة على دور العقل في التكليف “لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته“. ثم شرح كيف إن التشكيك في العقل يطعن بشكل تلقائي فيما نقلته الحواس التابعة له.

ثانيًا تنزيه النقل:
في مقال بعنوان “موقف أهل السنة والجماعة من العقل” تبنى أ.د/ محمود بن أحمد الدوسري، أستاذ الدراسات الإسلامية، تعريف ابن تيمية للعقل: “الْعَقْلُ: مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَقْلُ لا يُسَمَّى بِهِ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ بِهِ صَاحِبُهُ، وَلا الْعَمَلُ بِلا عِلْمٍ؛ بَلْ إنَّمَا يُسَمَّى بِهِ الْعِلْمُ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِالْعِلْمِ“. (مجموع الفتاوى)
ثم حدد “أهم ضوابط الاستدلال العقلي عند أهل السنة” في نقتطين رئيسيتين، الأولى: “أنَّ العقل لا يستقل بنفسه، بل هو محتاج إلى الشرع“.
والثانية: “تقديم النقل على العقل عند توهُّم التعارض، فالعقل مُصدِّق للشرع في كل ما أخبر به، دال على صدق الرسول دلالة عامة مطلقة؛ بل يقال إنَّ العقل مع الشرع كالعامي مع المفتي، فكيف بالرسول المعصوم في خبره عن الله تعالى الذي لا يجوز عليه الخطأ، فتقديم قول المعصوم على ما يخالفه من استدلال عقلي، أَولى من تقديم العامي قول المفتي على قول الذي يُخالفه“.
ويلاحظ هنا أن “الدوسري” يتبنى رأي “عصمة النبي“، بالإضافة لتصوير من ينكرون الأحاديث المتعارضة مع العقل إنهم يكذبون النبي؛ مخالفًا بذلك ما أوضحه أ.د/ محمد محمود بكار، رئيس قسم الحديث كلية أصول الدين، في مقال بمجلة الأزهر بعنوان “المحدثون المفترى عليهم“، حيث ضمن قول ابن القيم الجوزية (1292 – 1350): “ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يخالف العقول، ويناقض الأصول، ويباين المعقول، فاعلم أنه موضوع“، واقتبس منه أيضًا “الحديث المنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم وينفر منه قلبه في الغالب“.
أحاديث
بعد تبين أن الإنكار العقلي أو إنكار المتن ينصب على الأحاديث؛ وأن هذا الإنكار موجه للرواية لا لشخص من وردت عنه، يبقى التساؤل: هل توجد أحاديث صحيحة النقل وتنافي العقل؟
نصوص لا تليق بالنبوة:
بالبحث في صحيح البخاري يجد القارئ عديد الأحاديث التي يبدو بعضها لا يليق بمقام النبوة، فالأمر يصل إلى الحياة الخاصة بالنبي وزوجاته، حيث ينسب للسيدة عائشة إنها قالت: “كَانَتْ إحْدَانَا إذَا كَانَتْ حَائِضًا، فأرَادَ رَسولُ اللَّهِ أنْ يُبَاشِرَهَا أمَرَهَا أنْ تَتَّزِرَ في فَوْرِ حَيْضَتِهَا، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا، قالَتْ: وأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إرْبَهُ، كما كانَ النبيُّ يَمْلِكُ إرْبَهُ“.
أو إنها قالت: “كانَ النبيُّ يُقَبِّلُ ويُبَاشِرُ وهو صَائِمٌ، وكانَ أمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ“. (المصدر: صحيح البخاري).
فهل يمكن تصور أن أم المؤمنين تجالس المؤمنين أو تجمعهم لتروي لهم أدق تفاصيل العلاقة الزوجية بين النبي وزوجاته؟
ثم من أين لها بالقياس وهي لم يسبق لها الزواج قبل النبي وحُرِم عليها بعده؟

التأدب مع الله:
يضم صحيح البخاري أيضًا روايات وأحاديث عن بعض الأنبياء، نرصد منهم حديثين عن النبي موسى
“كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ، وكانَ مُوسَى يَغْتَسِلُ وحْدَهُ، فَقالوا: واللَّهِ ما يَمْنَعُ مُوسَى أنْ يَغْتَسِلَ معنَا إلَّا أنَّه آدَرُ، فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ علَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الحَجَرُ بثَوْبِهِ، فَخَرَجَ مُوسَى في إثْرِهِ، يقولُ: ثَوْبِي يا حَجَرُ، حتَّى نَظَرَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ إلى مُوسَى، فَقالوا: واللَّهِ ما بمُوسَى مِن بَأْسٍ، وأَخَذَ ثَوْبَهُ، فَطَفِقَ بالحَجَرِ ضَرْبًا فَقالَ أبو هُرَيْرَةَ: واللَّهِ إنَّه لَنَدَبٌ بالحَجَرِ، سِتَّةٌ أوْ سَبْعَةٌ، ضَرْبًا بالحَجَرِ” (الراوي: أبو هريرة).
بعيد عن الحجر السارق والنبي الذي يضرب حجر فيصيبه بالندوب، هل يمكن تصور أن يثبت الله براءة نبيه بأن يعريه في ملأ من قومه؟
أما الثانية فتتحدث عن واقعة موت النبي موسى فتقول: “أُرْسِلَ مَلَكُ المَوْتِ إلى مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إلى رَبِّهِ، فَقَالَ: أرْسَلْتَنِي إلى عَبْدٍ لا يُرِيدُ المَوْتَ، فَرَدَّ اللَّهُ عليه عَيْنَهُ وقَالَ: ارْجِعْ، فَقُلْ له: يَضَعُ يَدَهُ علَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بكُلِّ ما غَطَّتْ به يَدُهُ بكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ: أيْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ المَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ، فَسَأَلَ اللَّهَ أنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بحَجَرٍ، قَالَ: قَالَ رَسولُ اللَّهِ: فلوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ، إلى جَانِبِ الطَّرِيقِ، عِنْدَ الكَثِيبِ الأحْمَرِ” (الراوي: أبو هريرة).
والمتن هنا دون مواربة يتحدث عن فشل ملك الموت في تنفيذ الأمر الإلهي لأنه تم ضربه من قِبل النبي موسى، ليضعنا هذا الحديث أمام كم كبير من الإشكاليات، هل يمكن للملائكة أن تفشل في تنفيذ مهامها؟ هل كان موسى يرى الملائكة والجن؟ هل يمكن لبشري أن يضرب أحد كبار الملائكة؟ هل يمكن أن يتأخر أجل الله؟
المُستغرب من الحديث ومخالفة للقرآن:
في نفس المرجِع نجد رواية منسوبة لعمر بن الخطاب تقول: “أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ كانَ إذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بالعَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ، فقالَ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْكَ بنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وإنَّا نَتَوَسَّلُ إليكَ بعَمِّ نَبِيِّنَا فاسْقِنَا، قالَ: فيُسْقَوْنَ” (الراوي: أنس بن مالك).
متن الرواية يحيل قارئها فورًا إلى نص آية 106 من سورة يونس: ﴿وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ۖ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ﴾. ليتساءل عن كيفية صحتهما معًا؟
التضارب مع القرآن لا يقف مع هذا الحديث فقط، إنما يوجد في غير موقع ويخص شخصيات مختلفة منها النبي نفسه، فيروي أبو هريرة (ومازلنا في صحيح البخاري): “أنَّ رَسولَ اللَّهِ قالَ: هلْ تَرَوْنَ قِبْلَتي هَا هُنَا، فَوَاللَّهِ ما يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ ولَا رُكُوعُكُمْ، إنِّي لَأَرَاكُمْ مِن ورَاءِ ظَهْرِي“.
وهنا يطرح متن الحديث إن النبي قال لصحابته ما معناه إنه يعلم الغيب ويعلم ما في الصدور، رغم إن الله خص ذاته بهذه الصفات، وأكد على هذا بالقرآن في غير موقع، منها: ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (4 – التغابن).
ختام
في ظل هذا القدر (كمًا وكيفًا) من الروايات والأحاديث ذات المتون المشابهة لما ورد هنا، وغيرها أكثر وأشد، يبرز سؤال مفصلي:
هل تحتاج هذه الصحاح والسير لإعادة النظر فيها أم لا؟
الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
ما هو انطباعك؟







