همتك نعدل الكفة
881   مشاهدة  

النحت على الخشب.. فنَّان من الصعيد الجوَّاني

النحت على الخشب
  • صحفية استقصائية وباحثة في شؤون الشرق الأوسط، نشأت تحت مظلة "روزاليوسف" وعملت في مجلة "صباح الخير" لسنوات.

    كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال



كلما مرَّت أمامي صورة لمنحوتة من الحضارة المصرية القديمة أو الحضارة اليونانية تملَّكتني الدهشة؛ كيف طوَّعت أياديهم المجرَّدة الصخور والأخشاب لتنبض بالحياة، من أين جاءت تلك القدرة على تصوير أدَّق التفاصيل بأبسط الأدوات؟ لمحت أبصارهم عروقًا تنفر وقت غيط وأثوابًا تتهادى وفق أمزجة الرياح، ولمَّا قرَّت في أنفسهم تلك المشاهدات التي تغفل عنها الأعين اعتيادًَا صاغتها الأيدي بصَنعة عجيبة أعجزَت اللاحقين؛ فلا نملك اليوم سوى التطلُّع إليها بتساؤل: “هل تجود الأرحام بمثل هذا؟”.

الفنّ لا يحتاج فقط إلى وقت ودراسة ومجهود فجميعها بلا طائل إذا خلت من الموهبة، تلك العجلة التي تدفع العربة بأكملها وإلا تصبح بضعة مقاعد جلدية ومحرِّك لا طائل منه، الشرارة نفسها التي دفعت الفنَّان ماهر عطية منذ أكثر من 40 عامًا إلى تحويل موهبة الطفولة نحو الشغف بنحت الأخشاب؛ شاب يافع يتَّجه إلى “خان الخليلي” بمسقط رأسه أسيوط مدفوعًا بعاطفة تملَّكتة وسيطرت على مجرى حياته حتى يومنا هذا.

الفنَّان ماهر عطية
الفنَّان ماهر عطية

حين تعلَّم النحت على الأخشاب لم يكتفي بحفظ قالبًا أو اثنين لتنفيذهم تلقائيًا فيما بعد كحال أقرانه في ذلك الوقت، استثمر موهبته لتحويل قطع الخشب إلى منحوتات مأخوذة عن أصل أو تخطر على باله فيطَّبقها بتفاصيل ودقَّة مذهلة بشكل يدوي تمامًا، في حواره مع الميزان أوضح أن شغفه لفنّ النحت جعله يتقن الأساسيات ويضع قدمه على أول الطريق خلال 6 أشهر، لينَمِّي بعدها موهبته على مدار عقود ويصبح قادرًا على نحت وتصوير أي شكل من إنسان أو حيوان أو أيقونة.

النحت على الخشب ليس عملًا بسيطًا فالنحَّات يبدأ بقطعة الخشب المقطوعة من نوعين من الأشجار: السرسوع وهو أحد أنواع الأخشاب المقاومة للتسوُّس سهلة التطويع، وخشب الفيكس الذي تنتجه الأشجار غير المثمرة المنتشرة في الشوارع العامة ويتميز بلون أفتح من السرسوع؛ يتم قطع الزوائد وقص القطع الخشبية إلى أقرب هيئة للتمثال، ثمَّ العمل عليها بالفريزة والسنون المختلفة التي يمكن من خلالها حفر تفاصيل الملامح الدقيقة، ثم صنفرة المنحوتة النهائية وتلميعها.

فيما مضى كانت المنحوتات الخشبية مُطعَّمة بالعاج- أكثر المواد الشائع استخدامها لتطعيم الخشب-، الآن أصبحت المنحوتات خشب فقط دون استخدام أي تطعيمات من مواد أخرى كما أكدَّ عطية “المنحوتة الخشبية تتحدث عن نفسها بتفاصيل وتعاريج الأخشاب الطبيعية، دون الاستعانة بأي مواد أو ألوان قد تحطّ أحيانًا من قيمة العمل اليدوي”.

النحت على الخشب
النحت على الخشب

تمثال لدكتور فرنسي كفيف يُمَكِّنه من تحسُّس ورؤية وجهه

أحد أكثر التماثيل المميزة التي نحتها كانت بطلب خاص من خطيبة أستاذ جامعي فرنسي، طلبت منه نحت تمثال يبرز ملامحه حتى يستطيع تحسُّسه ليكون أقرب ما يمكن من رؤية وجهه، الأمر الذي لم يكن تنفيذه سهلًا فقد استغرق أيامًا من العمل المتواصل كما شرح قائلًا “لأتمكن من تنفيذ التمثال وجعله مطابقًا تمامًا للواقع طلبت عدة صور لزوايا الوجه المختلفة؛ من وجهة نظري عدسات الكاميرا دائمًا ما تكذب لأنها تعالج الصور وربما تغفل التجاعيد وتقاسيم الوجه الدقيقة، وهو ما يمكن أن يجعل التمثال في النهاية غير مطابق لصاحبه ويفسد عليه الفرحة التي عاشها بعد أن وصل إليه”.

النحت حرفة أخذها عطية إلى درجات الفنّ وجعلته يعيد إلى أذهاننا ما جسَّده النحَّاتون الرومان في تماثيلهم الرخامية، حيث أشار إلى أن نحت تمثال لشخص ميت يختلف في تفاصيله عن الأحياء؛ العروق النابضة بالحياة لا يمكن نحتها كالعروق الميتة المرتخية، تلك الدقَّة التي تحرَّاها الفنَّان المصري القديم مكنَّت علماء المصريات من تأريخ حياة الأشخاص من خلال تماثيلهم التي سجَّلت بواقعية تفاصيل الأجساد.

النحت على الخشب
النحت على الخشب

رغم العقبات “مصر ولَّادة”

السوق الوحيدة التي تُقدِّر النحت على الخشب والتُحف اليدوية وتوليها اهتمامًا هي البازارات المعتمدة على السياحة في محافظات مثل شرم الشيخ والأقصر والغردقة، ومع ركود السياحة منذ فترة طويلة أصيب فن النحت بنوع من الجمود، بل واضطر بعض الفنَّانين لتحويل أشغالهم إلى مجالات أخرى تدرّ عليهم ربحًا أكثر.

“المستهلك المصري لم يعد يُقدِّر الفن بل يبحث عن الأرخص فقط” هكذا لخَّص جزءًا من مشكلة انكماش الأسواق التي يواجهها الفنَّانين اليدويين محليًا؛ أصبح المستهلك يبحث عن الأرخص بغض النظر عن الجودة، والقوالب المصبوبة تنتج مئات التماثيل في ساعات قليلة بتكلفة بسيطة مما مكَّنها من السيطرة على السوق لتفرض نفسها على الذوق العام؛ ولا يمكن للنحت اليدوي بحال أن يتنافس مع تلك الأسعار خاصَّة وأن بعض التماثيل يمكن أن تستغرق أكثر من 10 أيام من العمل المُضني.

إقرأ أيضا
الشيخ حسني

الثقافة المفقودة في مجتمع اليوم لم تعد تهتم بالأشغال اليدوية أو تعتبرها أعمالًا لا يمكن أن تُقارن بالشبيه الصناعي وإن كان أرخص، حتى أصبح المجتمع أكبر عائق أمام فنّ النحت وفقًا لعطية “بعد أن أصبح الطلب على المنحوتات اليدوية شحيحًا لم يعد هناك مقبلون على التعلُّم، وإن لم يكن النحَّات على قدر عالٍ من الكفاءة لن يجد المجال لبيع أعماله؛ لكن كل تلك العقبات لن تمنع وجود فنَّانين مصريين يمكنهم المواصلة”.

يرى عطية أن فنّ النحت يحتاج في المقام الأول إلى استعداد فطري لدى الإنسان، إلى جانب نمط الحياة البسيط الذي ينعكس على أعماله الأمر الذي وصفه قائلًا “الإنسان المتفائل البسيط يتمكَّن من قبول الجمال وتذوُّقه، ومن ثَمَّ ينتج أعمالًا يرى القاصي والداني جمالها ويستشعر عذوبتها، في حين لا يمكن للمتشائم أو المُعقَّد استشعار الجمال وتصويره ناهيك عن جعل المشاهد يتسمتع به”.

الكاتب

  • النحت على الخشب إسراء أبوبكر

    صحفية استقصائية وباحثة في شؤون الشرق الأوسط، نشأت تحت مظلة "روزاليوسف" وعملت في مجلة "صباح الخير" لسنوات.

    كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
23
أحزنني
0
أعجبني
14
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
14


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان