النيل .. جنود وآلهة
-
نفيسة السنباطي
كاتب نجم جديد
«إذا انخفض منسوب النهر فليهرع كل جنود الملك ولا يعودون إلا بعد تحرير النيل مما يقيد جريانه»
«على الملك أن يستعد لتأمين النهر، وتأديب الهكسوس والحيثيين، وطرد شعوب الشمال -الشردنا-».
«الملك المصري متأهب بجنوده دوما. لا تخشوا على مصر فهي بلاد أوائل الموحدين في الأرض»
ثلاثة جمل نقشت على لوحة جدارية بمقياس النيل في أسوان.
«النيل هبة الآلهة» هكذا قال المصري القديم، وجاء هيرودوت ليقول «مصر هبة النيل».
فالنيل شريان الحياة لمصر، وسببًا رئيسًا في حضارتها التي نشأت وتكونت على ضفافه.
فبعد التغيرات المناخية في منطقة شمال أفريقيا من ندرة الأمطار والجفاف تدفق السكان نحو الأنهار ليظهر أسلوبا جديدا للمجتمع المصري.
اقرأ أيضًا
محاولات إثيوبيا للسيطرة على النيل “بدأت مع الحملات الصليبية وكلها فشلت”
أصل كلمة النيل
أطلق المصري القديم كلمة (إيترو عا) بمعنى النهر العظيم، والتي ما زالت تستخدم إلى الآن وصارت ترعة، وقيل أن كلمة النيل أصلها يوناني (نيلوس)، وذهب آخرون إلى أنها كلمة فينيقة للكلمة (نهل) بمعنى مجرى أو نهر.
وذهب المؤرخ اليوناني ديويدور الصقلي إلى أن (النيل) أطلق عليه هذا الاسم تخليدا لملك يدعى (نيلوس) اعتلى عرش البلاد، وحفر الترع، والقنوات فأطلق المصريون اسمه على نهرهم.
ويرى العالم المصري رمضان عبده في دراسته الموسوعية «حضارة مصر القديمة» أن كلمة النيل مشتقة من أصل مصري صميم من العبارة ( نا إيترو) بمعنى النهر ذو الفروع.
تأثير نهر النيل على تطور الحضارة المصرية
أثر نهر النيل تأثيرًا كبيرًا على حياة المصري القديم على الصعيدين الروحي والعملي.
فعلى الصعيد الروحي رأى المصري القديم الكثير من التجليات في النيل فقدسه، واحترمه، ووقر كل من حافظ عليه، وعاقب بقوانينه الرادعة كل من لوثه أو أهمله.
فاستخدمه في أداء الطقوس الدينية وتغسيل الموتى، وكان يغتسل فيه بقصد رفع الدنس عن البدن، وتنوير الروح وترقيتها، وفك قيودها الناتجة عن الآثام.
كما أطلق المصري القديم على نهر النيل لقب (أبو الآلهة) وهو لقب مستعار من الإله (نون) رب المياه الأزلية الذي اعتقد أن النيل ينبع منها.
وقد تحكم (الإله خنوم) رب الماء الذي يجلب الحياة على ضفاف النيل فينبت المحاصيل، ومن طميه يخلق الانسان والحيوان.
أما (الإله حابي) فكان مسيطرا على الفيضان، وهو إله ثنائي الجنس أي أب وأم النيل مما أتاح له تحقيق الخصوبة، وكلمة (حابي) في اللغة المصرية تعني: سعيد.
على الصعيد العملي فقد اخترع المصري القديم أدوات الصيد والشباك ليستفيد بما يدره عليه النهر من مصدر أساسي للغذاء، ثم اهتدى للزراعة واخترع الآلات التي تساعده على الحرث ورفع الماء من النيل كالشادوف. وبفيضانه عرف التقويم المصري المعروف بـ«التقويم النيلي» الذي كان يبدأ بظهور نجم الشعرى وقد قسمه لثلاثة فصول: الفيضان، الزراعة، والحصاد، وأيضا اكتشف على ضفافه نبات البردي الذي استخدمه للتدوين.
مع خصوبة التربة التي نتجت عن الفيضان توسعت الزراعة فأخذ المصري القديم بشق القنوات والترع كترعة الفيوم المعروفة بـ«بحر يوسف».
أيضا طور المصري القديم لصنع السفن للصيد واتخذها وسيلة للتنقل ثم تطورت مدارك المصري فظهر الرحالة والمستكشفين الذين حرصوا على اكتشاف البلاد والحضارات المجاورة.
وتذكر النقوش أن حاكم الجنوب ويدعى «حرخوف» قاد أربع حملات استكشافية إلى افريقيا بناء على أوامر من الملكين «مر إن رع» و «بيبي الثاني» حوالي 2200 ق.م.
وحرص «حرخوف» على تسجيل وقائع رحلاته في مقبرته بأسوان حيث يقول في نص له: « ارسلني سيدي صاحب الجلالة «مر إن رع» في صحبة والدي الصديق الأوحد والكاهن المرتل «إيري» إلى بلاد يام لاكتشاف دروبها، أنجزت هذه المهمة في غضون سبعة أشهر، وجلبت منها شتى أشكال الهدايا الجميلة منها والنادرة ونلت من أجل ذلك المديح كل المديح».
أسطورة عروس النيل
عرف على مر القرون أن المصريين القدماء كانوا يلقون فتاة بكرا ليفيض النيل وهذا ما ذكره المؤرخ العربي ابن عبد الحكيم في كتاباته، وجاء المؤرخ عبد الحميد زايد وذكر في دراسته «مصر الخالدة» قائلا: « قصة إلقاء فتاة في النيل التي رواها المؤرخ العربي ابن عبد الحكيم لا تعدو أن تكون أكذوبة من الأكاذيب المدعاة على مصر القديمة أو سوء فهم لبعض ما قام به المصريون عند الاحتفال بوفاء النيل في قصة عروس النيل، فهي قصة غير معقولة».
كما احتفظت بردية هاريس التي ترجع لعصر رعمسيس الثالث بقائمة من تذكر القرابين والحيوانات والنباتات والفواكه التي خصصت للمعابد، وتماثيل لمعبود النيل حابي والتي كانت تلقى في النيل بحسب البردية، وقد زار الكثير من الرحالة اليونان والرومان مصر وكتبوا عن عادات مصر ولم يشر أي منهم الى عروس النيل.
سبب احتفال المصري القديم بوفاء النيل
عندما قتل ست أخوه أوزوريس وألقاه في النيل طمعا في العرش جابت زوجته المخلصة إيزيس الأرض بمصاحبة أختهما نفتيس للبحث عن جثته باكيتين نائحتين.
وانهمرت دموع ايزيس لتنزل في نهر النيل وتسببت في فيضانه.
في النهاية وجدت جثة زوجها وبقوتها السحرية التي كانت تمتلكاها استطاعت إحياء زوجها مرة ثانية وحملت منه بابنها الإله حورس الذي تربى ف الخفاء، واشتد عوده ليستعيد ملك أبيه ويقتل عمه ست وينتصر الخير على الشر.
فاحتفل المصريون القدماء بذلك اليوم ليهدؤوا روع النيل أو ليشكروه على فيضانه الذي كان سببه دموع ايزيس.
كما اتخذوا ايزيس إلهة للوفاء والأمومة، بجانب وظيفتها لإرشاد الموتى للحياة الأخرى، وتعاويذها لمساعدة عامة الشعب في الشفاء من الأمراض.
تقديس النيل
وجد نصا مكتوبا يقول: «من يلوث ماء النيل سيصيبه غضب الآلهة».
وكان القدماء المصريين يضعون مع المتوفى شباك صيده ومراكبه ويكتبون في سجلاته إذا كان لوث مياهه او احتجزها فهذا أول ما يسئل عليه المتوفي.
وقد كان الشرب من النيل بمثابة حصوله على الجنسية المصرية فقد كان الإله آمون يصرخ على لسان كهنته: «إن البلد الذي يفيض فيه النيل هو مصر فكل من يشرب من النيل في مجراه التحتاني بعد جزيرة ألفنتين فهو مصري».
أما «حرخوف» فقد نقش على جدران مقبرته مخاطبا الإله «أنا لم ألوث ماء النهر.. لم أمنع الفيضان في موسمه.. لم أقم سدا للماء الجاري.. أعطيت الخبز للجوعى.. وأعطيت الماء للعطشى».
صورة بين الماضي والحاضر
أجدادنا المصريين احترموا النيل واعتبروه ينبثق من المياه الأزلية ليهبط في مصر وهذا ما يؤيده ما ورد عن سيدنا رسول الله -صل الله عليه وسلم- بأنه نهر ينبع من الجنة؛ فنظفوه وحافظوا عليه وعاقبوا من أهانه. كما قدموا له القاربين شكرا له.
فأي قرابين صرنا نلقيها فيه؟ وهل أجدادنا فخورين بنا اليوم؟
الكاتب
-
نفيسة السنباطي
كاتب نجم جديد