برنامج “ساعة وغنية” وقصة أفضل نحتاية في تاريخ الموسيقى العربية.

محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات

كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال

في البداية يمكن وضع تعريف مبسط لكلمة “نحتاية” بأنها عمل إضافي يتيح للشخص مزيد من الدخل المادي دون بذل مجهود ضخم يماثل ما يفعله في عمله الأصلي، على سبيل المثال الظهور في إعلان ترويجي لإحدى السلع أو برنامج منوعات وقد تكون النحتاية عملًا فنيًا لا يتطلب منه استعداد ومذاكرة وتركيز قوي.

لا تخلو حياة أي فنان من نحتاية قد تكون واضحة للعين أو مرت مرور الكرام على المشاهد وهناك فنانون تشكل النحتاية جزءً أساسيًا من مشروعهم الفني فتجدهم مشاركين بشكل دائم في تلك المشاريع السريعة ولا غرض لديهم سوى جنى مزيد من المال وهم من يطلق عليهم لقب النحتاجية وهم أسماء معروفة جدًا لكن على الطرف الأخر قد تصدمك أسماء قوية عندما تجدها تلجأ إلى النحت نظرًا لقيمتها الفنية العالية وفي نفس الوقت ليست مضطرة بأي حال من الأحوال اللجوء إلي النحت.

الرحابنة والنحت الفني.

يظل مشروع الأخوين رحباني واحد من أهم المشاريع الفنية في تاريخ الوطن العربي كله، تجربة نهضت بالموسيقى العربية وكانت رمزًا لبنانيًا قحًا استطاع الإفلات من فلك المحلية ليصل إلى الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.

بالطبع لم يخلو المشروع الرحباني من تجارب قد تصنف على أنها “نحت فني” مثل محاولاتهم استنساخ فيروز عبر عدة أصوات غنائية مثل “نجاة فغالي- راندا” وتطورت تلك المحاولات بعد الانفصال في برنامج “ساعة وغنية” الذي أنتجه تلفزيون الاردن بالإشتراك مع مؤسسة الرحابنة.

برنامج “ساعة وغنية” تكون من ثلاث عشر حلقات وهو عبارة عن مجموعة من الأغنيات والاسكتشات صنعت أواخر السبعينات في وقت كانت الحرب الأهلية على أشدها في لبنان وتأثر الإنتاج الموسيقي كثيرًا بالإضافة إلي إعلان عاصي الرحباني الإنفصال عن السيدة فيروز الصوت الرسمي لمشروع الرحابنة كلها عوامل شجعت على خوض غمار تلك التجربة الفنية سريعة القطف.

أغرب برنامج في التاريخ.

عندما تأتي سيرة هذا البرنامج مع زياد الرحباني يطلق نكاتًا ساخرة عنه حيث وصفه حيث وصفه في إحدى الحوارات (1) بأنه أغرب برنامج غنائي في التاريخ، وأنه اضطر للإشتراك فيه لمروره بضائقة مالية وكان يريد شراء سيارة مستعملة ثمنها 8 آلاف ليرة، وعندما جلب له عمه “إلياس الرحباني” عرضًا للإشتراك فيه وافق على تلحين ثمانية أغنيات فقط بعد أن علمه بأن سعر اللحن الواحد ألف ليرة وهو المبلغ الذي يريده فقط لشراء السيارة واشترط عليه عدم كتابة اسمه على أي أغنية وتحايل عمه على الأمر بأن كتب على التتر بشكل عابر أشترك في الألحان “زياد الرحباني”.

وضع زياد ألحان ثمانية أغنيات بالإضافة إلى موسيقى رقصة شرقية، ظهر في البرنامج سبعة منهم فقط افضلهم “بأخر الشارع ” هدى حداد ، “بيقولوا قيس ” ملحم بركات ، “ياريح المسا” رونزا، والأغنية الثامنة لم تظهر كان عنوانها “ورقو الأصفر شهر أيلول” وتم كتابة كلمات جديدة بعد ذلك ليتحول إلى أغنية “زعلي طول أنا وياك” التي غنتها السيدة فيروز في شريط “معرفتي فيك” ثم غنت لاحقًا كلمات “ورقو الأصفر شهر أيلول” بلحن مختلف وضعه فيلمون وهبة.

رحلة البحث عن بديلة لـ فيروز.

لا يمكن التأكيد على أن الأخوين رحباني أقدموا على تلك التجربة كمحاولة جدية للبحث عن مطربة تحل محل فيروز فقد سبق البرنامج عدة محاولات كما قلت سابقًا لكن في حوار صحفي (2) مع المطربة عايدة شلهوب التي كانت أحدى الأصوات التي شاركت في البرنامج أن عاصي الرحباني استدعاها إلي مكتبه وشرح لها أنهم بصدد إنتاج برنامج غنائي للتليفزيون وهناك ثلاثة أصوات نسائية سوف يتم التعويل عليها “عايدة شلهوب ، رونزا ، وفاديا طنب” ومن ستسبق فيهن سوف تربح، إذن مسألة استنساخ فيروز كانت تطرق أفكار الرحابنة بقوة في تلك الفترة ووجدا الحل في هذا الثلاثي.

ضم البرنامج بجانب الثلاثي السابق “هدى حداد ” الشقيقة الصغرى لفيروز – “منى مرعشلي” وانضمت إليهم المطربة الكبيرة صباح في أغاني “قالوا عني مجنونة – الحلوة الحلواي” واسكتش “الحنين إلي الأرض” بالإضافة إلي العديد من الأصوات الرجالية يتقدمهم الكبير نصري شمس الدين ومعه “محمد جمال – رجا بدر – سامي كلارك – ملحم بركات – عبده ياغي – جوزيف ناصيف – نزيه المغربي”

قام بالتوزيع الموسيقي للبرنامج الموسيقار “إلياس الرحباني” ويمكن أن نقول انه أحد المؤسسين لتيار موسيقى البوب العربي الحديث وله تجارب ناجحة خارج البرنامج مع “سامي كلارك – جورج صايغ” وغيرهم من الأسماء.

تفاصيل النحتاية “البرنامج”

لم تجد مؤسسة الرحابنة عناء كبيرًا في تقديم محتوى موسيقي متنوع حيث قسمت الأغاني إلي اربعة أقسام، أغاني تم تعريبها من ألحان غربية مثل أفيفا أسبانيا المستوحاة من أغنية بنفس الاسم و غربا والليل المستوحاة من Strangers In The Night و تامي المستوحاة من أغنية بنفس الاسم ايضًا، ثم استدعاء بعض أغنيات التراث مثل “سالمة يا سلامة – يا بهية ” من مصر و”رف الحمام” من الأردن ثم إعادة تقديم بعض أغنيات فيروز التي صنعها الرحابنة في وقت سابق مثل “هيلا يا واسع – بعدنا – حنا السكران” والقسم الأخير كان الأغنيات الجديدة التي صنعت خصيصًا للبرنامج.

بجانب مؤسسة الرحابنة اشترك في وضع الألحان الملحن الكبير فيلمون وهبة ومعه ملحم بركات، بشارة الخوري و رفيق حبيقة مع الشعراء جوزيف حرب وميشال طعمة وقصيدة وحيدة للشاعر نزار قباني.

صدر العمل بالكامل على عدة اسطوانات مدمجة وتم تقسيمها بشكل جيد حيث ضمت أسطوانة للأغاني المعربة من ألحان غربية وأخرى للأغاني الفلكلورية وصدرت أغاني المطرب “ملحم بركات” على جزئين والباقي على نفس الشاكلة.

الغريب أن بعد البرنامج خرجت أغلب الأصوات التي شاركت فيه لتبني مسيرتها الخاصة بعيدًا عن الرحابنة، بالأخص الثلاثي الذي كان يعول عليه الأخوين رحباني استنساخ تجربة فيروز وانطلق ملحم بركات ليحقق نجاحات ضخمة جدًا وضعته على قمة الغناء اللبناني في فترة وجيزة ومعه سامي كلارك الذي استكمل مسيرته مع إلياس الرحباني في تطوير شكل أغنية البوب العربي السريعة.

أغنيات البرنامج صارت تراثًا كلاسيكيًا الآن يلقى رواجًا بين المستمعين الغارقين في النوستالجيا وأصبحت شاهدًا على أنك من الممكن أن تلجأ إلي النحت الفني لكن في نفس الوقت تصنع عملًا عظيمًا.