بعد تصريحات مفتي الجمهورية .. السيد البدوي بين الخرافة والنسب لبيت النبي
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
في أروقة النقاشات الدينية، وبين صفحات التاريخ المتضاربة، جاء تصريحات الدكتور “نظير عياد” المفتي الجديد للجمهورية، ليشعل فتيل جدل لا يُطفأ بسهولة، حينما أعلن “عياد” بأن “السيد البدوي” ـ القطب الصوفي صاحب المسجد الأشهر في مدينة طنطا ـ وليّ صالح سليل آل البيت، ووارث نبوي رباني، وزيارته أمارة على الصلاح. حينها انفجرت ردود الفعل كالعاصفة في الأوساط الدينية والتيارات الإسلامية، وتأرجحت الآراء بين مؤيد يرى في هذا التصريح توثيقًا للمكانة الروحية لـ”لسيد البدوي” وبين معارض يعتبروه استنادًا على روايات غير موثقة وثابتة تاريخيًا، مما أضاف فصلًا في سلسلة الجدل المستمر حول الأصول والنسب في الإسلام، لاسيما الشخصيات الدينية المرتبطة بالأقطاب الصوفية الشعبية.
بالبحث والتحقيق، يتضح أن تصريحات الدكتور “نظير عياد” حول “السيد البدوي” لم تكن الأولى من نوعها ولا تحمل جديدًا في جوهرها، فقد سبقتها دار الإفتاء المصرية، عبر موقعها الرسمي (الفتوى)، بتوضيح حقيقة “السيد البدوي”، وذلك في عهد مفتي الجمهورية السابق الدكتور “شوقي علام”، الذي قال إن “السيد البدوي” هو قطب وعارف من كبار أولياء الأمة المحمدية، مما يعزز مكانته في قلوب أتباعه ومحبيه، ولم يكن “شوقي علام” وحده من أقر بهذا النسب النبوي للسيد البدوي كذلك؛ بل شاركه في ذلك عدد من شيوخ الأزهر ، الذين صادقوا على نسبه للسلالة النبوية، ولعل الشيخ “عبد الحليم محمود” وزير الأوقاف الأسبق وأحد أشهر علماء الأزهر الشريف كان من أبرز هؤلاء، حيث أفرد كتابًا كاملًا لتبيان شخصية السيد البدوي، ورد فيه على الآراء التي تصفه بالانتماء للمذهب الشيعي، موضحًا أن وجوده لم يكن لنشر هذا المذهب كما يظن البعض.
البدوي خرافة ووثنية
ومن وجهة نظر التيارات الإسلامية الأخرى، مثل السلفية، يرون أن “السيد البدوي” لا ينتمي إلى بيت النبي، وأنه كان شيعيًا باطنيًا يسعى لنشر الأفكار الشيعية تحت ستار التصوف، ومن أبرز من تبنوا هذا الرأي كان الدكتور “شمس الدين الأفغاني”، مؤسس الجامعة الأثرية ببشاور، والذي استند في رأيه إلى أن التاريخ لم يذكر أي ترجمة لحياة “البدوي” قبل أن يذكره “ابن تغري بردي” في القرن التاسع الهجري، وقد وصف الدكتور الأفغاني “البدوي” بأنه “خرافة ووثنية المخرقة القبورية”، مشيرًا إلى أن تقديسه لا يقوم على أسس تاريخية حقيقية.
كما أيد هذا الرأي الشيخ “أحمد شاكر”، الذي ذهب إلى أبعد من ذلك حيث أنكر وجود شخصية “البدوي” من الأساس، مشبّهًا إياه بشخصية الغول التي لا حقيقة لها، من خلال هذه الآراء، يتضح أن الجدل حول السيد البدوي ليس فقط تاريخيًا ولكنه يمتد إلى أبعاد عقائدية وفكرية، تعكس تعقيدات الاختلافات بين التيارات الإسلامية حول التفسير الحقيقي لشخصيته ودوره في التاريخ الإسلامي، وكل تيار يستند إلى مجموعة من الأدلة والحكايات التاريخية لإثبات وجهة نظره حول الرجل الأكثر جدلًا في تاريخ النسب والأعلام.
وبالعودة تاريخيًا إلى المصادر فنجد أن نسب “البدوي”، مسألة متباينة، حيث تتباين الآراء بشكل كبير بين مختلف التيارات والمصادر التاريخية. من جهة، يُجمع الكثيرون على “البدوي” ينتمي إلى نسل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من خلال سلسلة نسب تمتد إلى محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين، بن علي رضي الله عنهم جميعًا. هذا النسب، وفقًا لهذا الرأي، يُعزز من مكانته الروحية ويضفي على شخصيته هالة من القدسية والبركة، ومع ذلك، يبرز من بين النقاد من يشكك في صحة هذا النسب، من أبرز هؤلاء كان “المناوي”، الذي قال إن “البدوي” ليس من نسل العلويين بل من بني بري، وقد قدم هذه الرواية في محاولة لنفي نسبه للتشيع ولإثبات بركاته بعيدة عن أي تأويل شيعي.
الجدير بالذكر أن هناك اتهامات تحوم حول “البدوي” ـ من خلال النسب العلوي ـ تشير إلى أنه كان مرتبطًا بالتشيع، وذلك نظرًا لأن سلسلة نسبه تصل إلى موسى الكاظم، الذي يُعتبر من أبرز الشخصيات في التشيع الاثني عشري، إلى جانب تلقيه العلم في العراق على يد بعض تلاميذ الرفاعية والجيلانية، الذين كان لهم دور في استخدام التصوف كغطاء لحركات التشيع السرية التي نشأت في العراق وخُراسان بهدف تقويض الحكم العباسي السني.
حتى لو افترضنا أن ” أحمد البدوي” كان ينتمي إلى الحركات التشيعية، فإن من الضروري أن نفهم أن تلك الحركات في تلك الفترة كانت تتسم بطابع سياسي أكثر من كونها متورطة في الجدل الديني التقليدي بين المذهب السني والشيعي، وموسى الكاظم، الذي ينتمي إليه نسب السيد البدوي، كان عالمًا فقيهًا ذا تأثير عميق في العلم والتقوى، وله مدرسة علمية عظيمة في الكوفة التي خرجت آلاف العلماء والفلاسفة والفقهاء والمحدثين، وقد قال “الحسن الوشاء”: كان في مسجد الكوفة تسعمائة شيخ، كلهم ينسبون حديثهم إلى جعفر بن محمد، وكان لمنزلة أبيه، الصادق، تأثير كبير، حيث كان له مدرسة علمية متكاملة تتناول الحديث والتفسير والحكمة والكلام، وقد خرج منها أربعة آلاف عالم، منهم من أخذوا العلم عنهم، ومنهم الخطيب البغدادي وأبو إسحاق الثعلبي وأحمد بن حنبل، الذي روى عن موسى بن جعفر.
أما بالنسبة لتلمذة السيد البدوي على يد الرفاعية، فإن الرفاعي كان فقيهًا شافعيًا أشعريًا تلقى علمه في العراق، وورثّ علمه تلاميذه، بما في ذلك “البدوي”، وقد تطرق كثيرون إلى علم الرفاعي، من بينهم “ابن تيمية” الذي كان له فتوى معروفة بين السلفيين حول هذا الموضوع.
وكما كان هناك اختلاف في نسب السيد أحمد البدوي، كان هناك أيضًا جدل كبير حول علمه ومعرفته، وهذه نقطة جوهرية في تقييم شخصيته. فبعض المراجع التاريخية، مثل “طبقات الشعراني”، تؤكد أن السيد البدوي حفظ القرآن بالقراءات السبع ودرس الفقه على المذهب الشافعي تحت رعاية أخيه الأكبر. ثم خرج من مكة إلى العراق ليكمل دراسته في الفقه، وله مؤلفات في الفقه الشافعي لكنها حرقت وبعضها في مكتبات أوروبا.
ومع ذلك، كانت الحكايات الشعبية التي صاحبت رحلته إلى العراق مثار جدل كبير، حيث اعتبرها البعض فخًا للأخذ بها في سياق نفي قداسة السيد البدوي وولايته، ومنهم الشيخ (الشيخ عبد الحليم محمود في كتابه السيد البدوي )، من هذه القصص، واحدة تحكي عن لقاء السيد البدوي وأخيه بشخصية تدعى “عدي بن مسافر”، وأثناء عودتهم، واجهوا قطاع طرق. تقول الحكاية إن السيد البدوي قال لهم: “الزموا الأدب، فنحن أهل الخشب والنسب”، ثم أشار بيده فسقطوا قتلى. بعدها قال: “قوموا بإذن من يحيي الموتى”، فقاموا وقبلوا الأقدام وطلبوا الانصراف. هذه القصة تم الترويج لها في الأوساط الشعبية بين دراويش الموالد، لكنها لم تذكر في المصادر التاريخية إلا في تلك المتأثرة بالتصوف الشعبي، ومع ذلك، تستخدمها بعض التيارات الإسلامية كدليل على تكفير من يذهب إلى مسجد السيد البدوي، باعتبارها تحمل جوانب من الشرك بالله وادعاء الإلوهية، وقد بُنيت على أساسها أحكام شرعية كثيرة.
على أي حال، فإن السيد البدوي تلقى العلم في العراق على يد “ابن عرب”، الذي أخذ عنه آداب الدعوة وأساليبها. ومن الجدير بالذكر أن “ابن عرب” كان التلميذ الأول للطريقة الرفاعية، وهو شقيق “أبي العلاء الواسطي”، شيخ الطريقة الرفاعية في مصر، الذي كان سبب قدوم البدوي إلى مصر، وقد جاء ليحمل الراية بعد وفاته، وكانت رحلته إلى مصر محفوفة بالقصص والأساطير التي تداخلت فيها الحقيقة بالخرافة بالخيال الشعبي لكن قبل أن ننتقل إلى هذه النقطة، نتوقف على علمه وآثاره من وجهة نظر التيارات الإسلامية المعارضة.
فمن وجهة نظر التيارات الإسلامية الأخرى، كان يُنظر إلى العلم الذي نُسب إليه كمبالغة كبيرة، فيُقال إنه لم يترك خلفه أي تراث علمي يُذكر، وأن ثقافته كانت ضحلة بين دعاة الشيعة الباطنية في زمنه، مقارنةً بمفكرين ومعاصرين مثل ابن عربي، صاحب كتاب “الفتوحات المكية”، ويشير “محمد فهمي عبد اللطيف” في كتابه “السيد البدوي ودولة الدراويش” إلى أن شخصية “البدوي” كانت سطحية، وأن ما يُشاع بين أتباعه وكثير من شيوخ الأزهر عن تأليفه كتبًا في الفقه الشافعي ليس صحيحًا، ويرى هؤلاء النقاد أن السيد البدوي لم يترك ثروة علمية تدل على أنه كان شخصية ذات علم عميق.
ادعاءه الجنون
بالإضافة إلى ذلك، يُقال إن “البدوي” ادعى الجنون عندما وصل إلى مصر. فقد سكن سطح دار ركن الدين في طنطا، بجوار مسجد البهي (الذي يعرف بمسجد البوصة)، وكان يصرخ باستمرار ليظهر للناس جذبه الروحي. ويذكر “عبد الصمد زين الدين الأحمدي” في “الجواهر السنية” أن البدوي كان يقيم في الدار ليل نهار، يصرخ بلا انقطاع، ويلبس ملابس المجاذيب، ويرتدي اللثام على وجهه باستمرار، ولم يكن يخلع ثوبه حتى يبلى.
ومن مظاهر هذا الجذب والجنون، وفقًا للحافظ السخاوي نقلاً عن المقريزي، أنه تبول على حصر المسجد وكشف عورته أمام المصلين، ويُروى أن الناس كانوا يتوافدون إلى “البدوي” لأسباب مختلفة، فمنهم من يطلب منه المساعدة في أمور دنيوية مثل رعاية مواشيه أو أغنامه، وفي إحدى المرات، بعد أن قام الخطيب بإقامة الصلاة، وضع البدوي رأسه في طوقه وكشف عن عورته بحضور الناس وتبول على ثيابه وحصر المسجد، ولم يصلِ معهم ومن خلال هذه الحكاية تستند التيارات الإسلامية المناهضة لولاية “البدوي” بأنه مجنون ومشرك كونه لا يصلي وغير طاهر. كما تشير بعض الآراء التي تقول إنه جاء إلى مصر لنشر الدعوة الشيعية إلى أن هذه التصرفات من جذب وجنون كانت تمويهًا لإخفاء أي نوايا سياسية للبدوي بعودة التشيع إلى مصر، ولكن يظل السؤال قائمًا: لماذا لم يظهر أي أثر لدعوى سياسية للبدوي، بينما بقيت كراماته هي التي تُذكر؟
يُشار إلى أن كراماته كصوفي ولي انتشرت بشكل واسع في تلك الفترة، خصوصًا في ظل الحملات الصليبية على مصر والشام، وواحدة من أشهر هذه الكرامات هي قصة تحرير الأسرى الذين أسرهم الصليبيون، حيث كان الناس يطلبون منه تحريرهم، وكان بالفعل يذهب ليغيثهم من أيد الأعداء، وبقيت هذه القصص في الذاكرة الشعبية، حتى أن هذه الحكايات كانت تُغنى في الأغاني الشعبية وأصبحت لازمة في الموال الشعبي، إلى الآن : “الله الله يا بدوي جاب الأسرى”.
هذا التناقض بين الحكايات الشعبية والمراجع التاريخية يُثير الكثير من التساؤلات حول طبيعة شخصية السيد البدوي، وهل كانت كراماته تعبيرًا عن روحانية حقيقية وعلم كما يقول من يؤمن بنسب الرجل وعلمه أم مجرد أدوات سياسية واجتماعية استُخدمت في ذلك الزمان، وامتدت إلى زماننا، أم أن الشخصية إجمالًا غير حقيقية؟
اقرأ أيضًا: الله الله يا بدوي .. حكاية كرامة لزمت الموال الشعبي
الكاتب
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال