بيت العجايب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
شقة الأسرة كانت في بيت ينفع تسميته ببيت العجايب، البيت يقع في شارع متفرع من كلوت بك، يعني منطقة شعبية كلاسيكية، بيوت سكنية تحتها محلات غالبية أصحابها أو العاملين فيها من سكان المنطقة، بس للمصادفة بيتنا ده تحديدًا، المكون من أربع تِدوَار وسطح، ورغم تنوع سكانه اللي ماكنش فيه أي حد من سكانه شغال في الشارع.
فتحت عيني ع الحياة والبيت ده تحته عدد أتنين محل، واحد مقفول بباب خشب عملاق بواسطة سؤيطات حديدية بتحتاج لأكتر من قفل عشان تقوم بدورها، والتاني مكتب شحن (القاهرة-الواحات) والعكس، حيث نسبة كبيرة من سكان الشارع من الواحات، أو (وَاحْيِة)، وده حسب نطقهم همه شخصيًا.. في غنوتهم الخالدة (إحنا الواحية أكالين الضاني)، كانوا يغنوها دايما في الحنة والتنجيد وكل المناسبات الاحتفالية الخاصة بالنسوان.
محل الشحن محتوياته الثابتة مش أكتر من مكتب إيديال متهالك وكرسي، والباقي عبارة عن مساحة فاضية لزوم تخزين البضايع المسافرة الواحات أو الواصلة منها.
العربية السحرية
أما المحل أبو باب خشب فكان لما يتفتح، وده حدث إستثنائي مستحيل يوصل لخَمَس مرات في السنة، كنا نشوف فيه مجموعة أرفف خشب مجلِدة حيطانه التلاتة وعليها أزايز غير مفهوم بتاعت إيه، أما مساحة المحل فبيشغِلها عربية فيات لبني موديل السبعينيات، والعربية مملوكة لعم حمدي ابن صاحبة البيت والقاطن بالدور الأول.
باب البيت حديد أخضر وكبير، المدخل عبارة عن حوش واسع مقسوم مستوايين بيفصلهم حوالي 3 سلالم، المستوى اللي فوق فيه باب خشب صغير لونه أخضر برضك، وده مؤدي للمنور، ومنه يبدء السلم الممتد لغاية السطح.
الدور الأول شقة عم حمدي، الموظف في الاسعاف، وحرمه طنط هدى الشهيرة بحمامة السلام، سِت يستحيل تسمع صوتها لأي سبب كان، إلا لو كلامها موجه ليك شخصيًا، وعيالهم 3 أولاد في غاية التأدب والهدوء، أصغرهم حمادة، الوحيد اللي من سني.. بس نادرا ما كان يخرج يلعب زينا السلم، أصل ناس بتخزن عربيتها في محل وتاخد معاها الأستبن والبطارية معاهم وهمه طالعين الشقة.. صعب جدًا يسمحوا لعيالهم يختلطوا بباقي سكان الكوكب.
حِجة وتجارة
أسرة محافظة بشكل كبير.. ومريب، فرغم إن عندهم عربية بس كل فرد منهم معاه “أبونيه“ هيئة نقل عام (جميع الخطوط) الأب بنفسه بيجددهم بشكل دوري، فزي ما قلت العربية مابتخرجش من محبسها إلا مرات قليلة جدًا في السنة، مناسبة عائلية.. توصيل أو استقبال أمه في رحلة الحِج.. حالة وفاة.. إلخ، إنما المشوار الثابت لهذه السيارة المتحفية هو رحلة المصيف.
هذه الأسرة العايشة بآليات التنظيمات السرية كانوا بيصيفوا كل سنة في نفس الزمان والمكان، أخر أسبوعين قبل بداية المدارس.. في بورسعيد، والاختيارين مش محض صدفة.. إنما اختيارات دقيقة حطها عم حمدي بعد تفحيص وتمحيص وحسابات منطقية، الموعد يضمن إن مافيش زحمة وبالتالي الأجواء أهدى والأسعار أرخص، المكان مش مصيف معتمد شعبيًا أصلًا ما يشكل إضافة للمزايا السابقة، والأهم إن بورسعيد وقتها كانت منطقة حرة والأسعار فيها أرخص من باقي البلد، فكانت منها رحلة مصيف وشوبينج لكسوة المدارس والشتا، أو كما يقول المثل الشعبي: حِجة وتجارة.
الشقة اللي في وشهم شقة عم مشمش وحرمه طنط فيفي، وعندهم ولد وبنت، الولد اسمه أكرم وأصغر مني كتير لكن مستقبلًا هيخلفوا كمان بنت، وهتجمعني بأبنهم (أكرم) صداقة ممتدة ومعقدة.
الهدوء الذي يسبق العاصفة
الدور التاني هو أهدى دور ع الإطلاق، ع اليمين (فوق عم حمدي) شقة أخوه فكري، وده راجل شغال في الخليج واسرته معاه، فالشقة مقفولة، في وشها شقة أم حمدي (صاحبة البيت).. جدة تعيش لوحدها مابنتعاملش معاها غير وإحنا بندفع الإيجار، أو وهي بتنده تزعق بسبب دبدبتنا عليها وإحنا بنلعب.
الدور التالت شقة الأخ التالت سيد سعودي وحرمه طنط نعمة، على ما أذكر كان موظف مدني في هيئة عسكرية ما. كان عندهم ولد وبنت، الولد هو أطول سكان العمارة وأول من اشترى كمبيوتر، ماركة صخر.
الشقة اللي في وشهم إحنا، الشقة الأسوء حظًا في البيت كله، كل سكان البيت ناس طيبة وهادية وفي حالها، إلا شقة واحدة بس هي اللي ساكنها ناس بتوع مشاكل وشغل حلق حوش، وتقع هذه الشقة في الدور الرابع، فوقنا مباشرة.
عقود من الخناق والمشاكل اللانهائية، حرفيًا مر على الشقة دي 3 أجيال كلهم كانوا بيتفننوا في تخريب الحمام وتغريق الشقة مية لغاية ما تنقط علينا، ويرفضوا أي تصليحات، وكان الرد الدائم عند الأب المؤسس سعيد الشاذلي: ليسوا بشوية أسمنت، جملة أثيرة ظل يكررها حتى تبللت شقتنا بالكامل.. وتحول اسمه إلى سعيد ليسها.
الدور الرابع
الدور الرابع، ع اليمين شقة عم أيوب وأم ماجد، وعندهم ولد وبنت (ماجد ونانا)، عم أيوب جواهرجي مستقل عند تسجة* تلميع في البيت جعلت من الأوضة اللي هي فيها منطقة محرمة الدخول، رغم التسجة وفرق السِن بيني وبين عيالهم لكنهم كانوا ناس لطيفة ومرحبة جدًا. دايمًا أطلع عندهم أتفرج مع ماجد على الاختراع الجديد اللي اسمه الفيديو أو يلاعبني شطرنج، وكتير نانا كانت توصلني مدرسة اليوسفية في الفجالة، المدرسة اللي قضيت فيها سنة حضانة وأولى أبتدائي.. قبل ما يتم نقل أوراقي لمدرسة كلابشة الابتدائية لمدة سنة واحدة، لسبب لا يعلمه حتى الله.
في أعيادهم أم ماجد تنزلنا القرابين بتاعتهم، وفي عيدنا أمي تبعتلهم الكحك والبسكوت والذي منه، والأتنين كل واحدة فيهم ليها عشة فراخ فوق السطح، اللي فيه أوضتين.. واحدة فاضية وواحدة تسكنها أسرة عم سيد وحرمه طنط سميرة وأبنائهم عماد وياسر، أول أسرة تعزل من البيت.
سعيد لَيَسها
في وش أم ماجد تقطن أسرة سعيد ليسها وحرمه وأبناءه التلاتة، عادل اللي راضع من أمي وعلى عداء شديد مع أبوه، ما تسبب في طرده من البيت، وأخت مكافحة مقسومة بين شغل البيت والشغل بره لتوفير نفقات البيت، وابن أصغر كنا أصدقاء لفترة طويلة.
أما الأب نفسه فعلى ماكبرنا كان مابيشتغلش وماحدش عنده فكرة عن شغله السابق، البعض يقول سمسار والبعض يقول تاجر شنطة، ومافيش شئ مؤكد غير إنه كان بيسافر فعلًا بره مصر وأتسجن فترة في اليونان.
فترة طفولتي البكر شهدت عدة معارك بين أبويا والسيد سعيد ليسها أو حرمه فتحية، كلها بسبب المية اللي بتخر من السقف ورفضهم التصليح، خناقة تخلص على معلش.. وخناقة تخلص في القسم.. وخناقة خلصت بتعويرة في دماغ بابا من فتحية.. وخناقة خلصت بسعيد واكل علقة معتبرة من بابا، تنوعت الخناقات وأحداثها وقفلتها، لكن فايش واحدة فيهم خلصت بإنهم صلحوا السقف.
دارت الأيام وتدهورت الحالة العقلية لفتحية وبقت ملازمة لشقتها أو تطلع تقعد في السطح، وبعدها بسنين بابا مات وبعدها بسنوات سعيد ليسها حصله، وهنا عاد الأخ الأكبر الطفشان للظهور.. عشان يستقر فوق دماغنا هو ومراته وأورطة عيال، وأعيش مع تالت جيل من أجيال عائلة ليسها، جيل أكتر إزعاجًا وإهمالًا وتخريبًا.
الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال