بين الاستشراق ونفي وجود شرق حقيقي.. كيف عكست كتابات إدوارد سعيد تطور فكره؟
-
مريم مرتضى
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
يحمل التاريخ في جعبته الآلاف من الكتاب والمُفكرين العظماء، الذين ساهموا بأفكارهم البناءة ورؤيتهم في تغيير شكل العالم ومعالجة القضايا والأمور، والذين قاموا بدور فعال في وقت الأزمات والثورات والحروب، ولعل تلك الأيام نحن في حاجة ماسة لشخص مثل “إدوارد سعيد” ذلك المُفكر والمثقف الكبير الذي قدم لنا في كتابه “الاستشراق” تلك النبوءة التي هاجمه عليها العالم، واتهموه وقتها بالتدليس ومحاولة تشويه صورة الغرب مقابل الشرق، كما قدم أيضًا نقد كامل للخطاب الغربي الذي اخترع الأخر الشرقي والعربي المسلم، ليُبرر حملته الاستعمارية على الشرق، وقد أسس في ذلك الكتاب نظريتين نقديّتين، الأولى هي “نقد التصورات الغربية عن الشرق”، والثانية هي “نقد التصورات الشرقية عن الغرب” وسرعان ما طغت الأولى على الثانية.
كتاب الثقافة والإمبريالية
الحقيقة لم يكن كتاب “الاستشراق” هو الكتاب الوحيد المُثير للجدل له، بل قدم العديد من الكتب بعد ذلك، أسست نظرياته حول العالم، لعل أبرزهم كتاب “الثقافة والإمبريالية” الذي يُمثل اللحظة الثانية في تطور فكر إدوارد سعيد الكتاب تم نشره في عام 1994م، ويُعد استكمال لكتاب الاستشراق، حيث أنه يتناول الوجه الآخر لمشروع سعيد الفكري وهو “الغرب في مرآة الشرقيين”، ولم يكتفي إدوارد سعيد بدراسة دور الثقافة في تبرير الإمبريالية وتزويدها بوسائل الشرعية على ضحاياها فقط، بل إنّه قدم أيضًا الدور الكبير للثقافة المقاوِمة في النضال التحرري من الاستعمار، وابتعد في منظوره عن الدول الموجودة في آسيا التي كان يُركز عليها في الاستشراق، وانتقل إلى حركات التحرر لشعوب القارات الثلاث، وفتح من خلال الكتاب تصحيح لما في “الاستشراق” من أحُادية، آخذاً في الحُسبان تلك المُلاحظات النقدية التي وُجهت إليه خصوصًا من جهة اليسار.
كيف تطور فكر إدوارد السعيد في كتاباته؟
قام إدوارد سعيد بتصحيح مسار أفكاره في عدة اتجاهات بعد انتقادات كثيرة تعرض لها عقب إصدار كتاب الاستشراق وأبرز تلك الأفكار كانت الآتي :
اليمين المتطرف في ألمانيا خلال 2020 “13 جريمة ضد المسلمين وهذه جذور المشاكل الحقيقية”
إدوارد سعيد يطرح ثالوث “السُلطة، الموقع، المصالح”، في كتابه ” العالم والنص والنقد” صـ 244 قام إدوارد سعيد، بنقد نظرية ثُنائي “المعرفة، القوة” المنسوبة إلى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، مُبررًا انتقاده بأنه يُهمل دور الطبقات والاقتصاد، ودور الثورات والانتفاضات في المجتمعات، التي يتحدّث عنها، ومن جهة أخرى قام سعيد في كتاب “الثقافة والإمبريالية” صـ 13، 14، بتصحيح أحُادية الجانب في نظرته السياسة الثقافية للاستعمار، وأوضح أبعاد الاستعمار الاقتصادية من خلال سيطرته على الأسواق والمواد الأولية واليد العاملة الرخيصة والأراضي الزراعية، مما يعني استبدال ثُنائي “المعرفة والقوة” بثالوث “سُلطة، موقع، مصالح”، الذي يعني أن الأهم هو السياسة والموقع الجغرافي والمصالح الاقتصادية والطبقية، وهو من وجهة نظره مُصطلح أشمل للمعايير التي تتحكم بتفكير الجماعات البشرية وسلوكها.
إدوارد سعيد يعترف بأنه يُمثل النعرة الجوهرانية
في كتابه “الأنسنة والنقد الديموقراطي” الذي يُعتبر كوصية لإدوارد سعيد، حيث أنه قام بجمع مادته وكتابتها، ثم وضع قلمه وغادرنا قبل أن ينتظر النشر، وفي هذا الكتاب صـ 24 ،25، قام إدوارد سعيد بالاعتراف بصحة ذلك النقد الذي وجهه له الناقد الأدبي الأمريكي جيمس كليفورد، وهو أن إدوارد يمثل أنماط النعرة الجوهرانية ذاتها التي يُهاجمها في كتاب الاستشراق، بمعنى أوضح أن إدوارد سعيد يقوم بتحويل الغرب إلى جوهر قائم بذاته، ويتعامل معه على أنه كيان ثقافي مُتجانس وموحد يمتد في خط مُستقيم من إيسكيلس الإغريقي إلى كارل ماركس.
إدوارد سعيد ينفي فكرة وجود شرق حقيقي
تم توجيه نقد شديد لاذع لإدوارد سعيد عقب انتشار كتاب الاستشراق حيث رأى البعض أن غرض الكتاب هو الدفاع عن شرق حقيقي يشوّهه الاستشراق الغربي، وردًا على ذلك أوضح في كتاب “الأنسنة والنقد الديمقراطي” صـ 70، أنه اعتمد في الاستشراق على الطبيعة الخاطئة لكل المفاهيم بسبب ارتباطها بالدنيوية، واعترف بأن الكتاب لم يكن يهدف للدفاع عن الشرق الحقيقي، بل أنه لم يكن يطرح فكرة وجود شرق حقيقي من الأساس.
خالد الجندي .. مسيرة من عقوق الأزهر بدأت بالطيب ووصلت إلى الطلاق الشفوي
الدعوة إلى التحول من الاستعمار إلى التحرر المُجتمعي
أوضح إدوارد سعيد في كتابه “في الأسلوب المُتأخر” الذي صدر بعد وفاته صـ85، أنه ينضم لفكر الفيلسوف الجزائري فرانتس فانون الذي يدعو إلى تحويل ذلك الوعي الوطني القومي الذي ساد فترة النضال ضد الاستعمار إلى وعي اجتماعي خلال الحقبة الاستقلالية، بشكل أوضح يعني الانتقال من فكرة التحرر الوطني من المُستعمر إلى التحرر الاجتماعي الداخلي، وبناء مجتمع تسود به الحرية والمساواة وبناء ثقافة جديدة على أنقاض ثقافة المستعمر والمجتمع التقليدي، وهنا يبرز بوضوح كيف تطور فكر إدوارد سعيد وتحرر من ثُنائية “شرق وغرب” نهائيًا، ودعوته إلى اكتشاف عالم ليس مبنيًا على المُعاداة في نظرة إنسانية علمانية.
الكاتب
-
مريم مرتضى
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال