همتك نعدل الكفة
285   مشاهدة  

بين حديث الروح وعصفور من الشرق جاء تاريخ توفيق الحكيم !

توفيق الحكيم
  • مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال



يتصل تاريخ توفيق الحكيم اتصالًا وثيقًا بأعماله الأدبية، ففي قصته حديث الروح التي نشرت عام 1933م  نراه يصور طفولته وكيف شكلت الأم التركية حياة صغيرها، أما عن مرحلة شبابه وسفره إلى فرنسا والقضايا التي آمن بها هو وجيله  فقد وثقها أدبيًا في روايته عصفور من الشرق التي نُشرت عام  1938م تلك الرواية  التي تحاول أن تبحث عن الحلم المفقود ، تبحث عن البطل الضائع الحالم الممض في باريس وصدمته بالواقع … و ضحت  الصراع بين الغرب والشرق، القلب والعقل، ولم يتجاهل توفيق حياته العملية كرجل مشتغل في القضاء فنراه أيضًا يوثقها في روايته يوميات نائب في الأرياف التي نُشرت عام 1938م، ومن هذه الروايات الثلاث ، يمكننا التعرف على حياة الحكيم بالإسقاطات البسيطة التي سنتتبعها في هذا الباب .

عوامل نشأة نشأة الحكيم من خلال روايته حديث الروح 

أخذ المجتمع المصري ينفض عن نفسه غبار الجمود والتخلف، منذ نهايات القرن التاسع عشر، يدعو إلى الحرية متأثرين بما حدث في الثورة الفرنسية ، يعمل على محاربة الظلم و الفساد ، و تحت هذه العوامل نشأ جيل جديد أوقف نفسه للنضال وتحرير المجتمع المصري من الأتراك و المتتركين[1]، ونشب صراع بين طائفتين متمثلة في الحزب المصري من العسكريين وحزب الدخلاء من الضباط الأتراك، وقد انتهى هذا الصراع بالثورة العرابية.

ولكن القصر المتمثل في الخديوي توفيق حاول إخماد تلك الحركة الرامية لتحرير العنصر المصري من الترك، فاستعان بالإنجليز وهنا كانت صدمة من نوع آخر صدمة؛ فلم تكن صدمة الحداثة الذي حاول المصريين اللحاق بها وإنما صدمة الإحباط وإخماد الواقع ، ويبدوا أن إخماد حراك المصريين كان  ظاهريًا؛ إذ كانت القلوب تجيش بعواطف العداء نحو عنصر الحكام من المنحدرين من أصول شركسية أو تركية وامتد العداء حين وُجدَ عنصر آخر وهو العنصر الإنجليزي.

 

في ذلك الوقت والصراع المحتدم بين العنصر التركي الحاكم وبين العنصر المصري اتصلت أسباب الحياة الزوجية بين «إسماعيل بك الحكيم» أحد الفلاحين الأثرياء المعروفين في بلدة دمنهور وأحد رجال السلك القضائي وبين إحدى الفتيات التي تجري في عروقهن الدم التركي، وكان ثمرة هذا الزواج المختلط توفيق الحكيم.

ينحدر إسماعيل بك من طبقة الفلاحين وكان ثريا؛ وثراءه هذا كان من جهة أمه لا جهة أبيه[2]، فقد ورث عنها ثلاثمائة فدنًا من أجود الأراضي الزراعية في الدلنجات إحدى قرى البُحيرة، في مقابل إخوته من جهة أبيه يعيشون يبحثون عن قوت يومهم[3].

تطلع إسماعيل بك أن يحيا حياة المدنية وأن يندمج في طبقة الحكام فكان السبيل إلى ذلك هو المصاهرة والزواج من طبقة الترك أو الشركس، وبالفعل تزوج بنت أحد الضباط الأتراك المتقاعدين،  وكانت هذه الفتاة تشعر بقوة شخصيتها، وتحس بظهور ذاتيتها[4]، هذه الذاتية كانت القوة الفاعلة والجاذبة التي أجبرت إسماعيل بك أن يتخلى عن حياته كأحد أبناء الفلاحين وأن يندمج مع المجتمع الارستقراطي هذا، لكن حياة الرجل كانت نضالًا بين طبيعته الأولى وبين  الحياة الجديدة التي دخلها بكل أرادته.

تمثل هذا النضال في الصراع بين طباع الفلاحين و الحياة الجديدة التي أخذها  من خلال والمتتركين، وكان هذا الصراع أحيانًا يمتد إلى خارج نفسه؛ فيتصل بمجرى الحياة الزوجية بين الزوجين، وكان هذا كله يترك أثرًا ثابتًا في محيط الحياة الزوجية، ويلونها بلون خاص، في هذا الجو المضطرب نشأ توفيق الحكيم .

في هذا الجو الخانق عاش توفيق طفولته، وجد توفيق السبيل والامتداد  إلى نفسه وشخصيته، هذا الامتداد كان يتجه إلى الداخل يسعى للتمرد على رغائب الأبوين، فتمرد على القالب الذي صُب فيه من جانب الوالدة خاصةً، كونها جارت على طفولته و اتبعت التربية التركية في نشأته ، ولما كان النظام التربوي التركي من أشد نُظم التربية  تضيقا للطفل، ونزع رغباته و أكثرها توارثا للعادات والتقاليد ، أفقد الطفل حيويته وميوله  الفطرية من لعب وعاطفة، كعاطفة الأمومة مثلا فهو مشتاق إلى الشعور بها و بدفئها، وبات يتلمس ميوله تلك منذ أن كان عمره ست سنوات .

ميول فطرية 

فتش توفيق منذ ذلك السن عن ميوله الفطرية العاطفية، لاسيما عاطفة الأمومة و ساهم في ذلك عبثية القدر في الحقيقة ، حيث تلك الفرقة الموسيقية [5] التي كانت على اتصال وثيق بالعائلة، و كانت تقضي مع العائلة الإجازة في كل صيف، وجد الحكيم في صاحبة تلك الفرقة الحنان و دفء الأم الذي افتقده، و وجد في أعضائها الأنيس الذي انتشله من الانعزال الجبري المفروض

خرج الحكيم من مصاحبة  تلك الفرقة مغرمًا بالغناء والموسيقى، كما حفظ الكثير من الأدوار الشعبية التي تداولاتها ألسنة العامة حين ذاك. .

وفي عمر السابعة التحق الطفل بمدرسة دمنهور الابتدائية ، في هذه المدرسة انفصل الطفل قليلا عن جو العائلة الارستقراطي الجامد الذي كان يحياه أبويه، واندمج مع الطلبة، غير أن الحكيم اصطدم  بمناهج التعليم الجامدة، ولم تكن المدرسة ميدانا يفسح له ما يٌفتش عنه من شغف و ولع بالموسيقى حينها، وأنهى دراسته الابتدائية عام 1915م .

أكمل توفيق الحكيم تعليمه الابتدائي،  وقد استقر قرار والده أن يدخله مدرسة ثانوية، ولكن «دمنهور» ليس بها مدرسة ثانوية، فما العمل؟ كان رأي والده أن يوفده للقاهرة فيلتحق بمدرسة ثانوية؛ ليعيش تحت رعاية أعمامه وعمته الذين ينزلون القاهرة  مقابل جعل بسيط يدفعه والده لأعمامه[6].

التحق توفيق بمدرسة  محمد علي الثانوية وسط نظامًا عائلي لم بفرض عليه الالتزام بقواعد معينة ، فهذا عمه الأكبر شخصية مرحة يعمل كمدرس للرياضيات في أحد المدارس الابتدائية،  وعم آخر يدرس الهندسة وكان قريب نوعًا من عمر الحكيم، وعن عمته فهي تلك المرأة الريفية التي لم يؤثر فيها أجواء المدينة فاحتفظت بما هي عليه كامرأة من ريفية بسيطة حتى في شكل ملبسها[7].

امتداد شخصي نحو الخارج 

في هذا الجو عاش توفيق نيفًا وثلاث سنين وهو يتدرج في صفوف التعليم الثانوي، وكان جو العائلة مما جعل لميوله أن تأخذ طريقها الطبيعي، فلم يكن الوسط العائلي الجديد الذي يحيا فيه فارضًا عليه نظامًا من الحياة يلتزم أن يحياها، أو مجموعًا من التقاليد مضطرًّا للمحافظة عليها. كان وسطه العائلي الجديد بما هو عليه من التسبب يترك له كل الحرية في التفكير والعمل، فكان يتصرف طبقًا لميوله والأغراض التي استقلعت على أساس معين خرج به من سني الطفولة نتيجة للمحيط العائلي الأول الذي اكتنفه، فكان الصبي توفيق في محيطه العائلي الجديد بين أعمامه يشعر بروح تدفعه للاندماج معهم في جوهم، لأن هذا الاندماج قائم على حفظ الشخصية حرة من القيود، وقد وجد توفيق في هذا الاندماج ما يساعده على الخروج من صدفة نفسه ومد شخصيته نحو الخارج

وكان هو في المدرسة، بحكم العوامل التي كيفته، أو قل تكافأت مع ذاتيته، قصته على غرار خاص بعيدًا عن الألعاب المادية والحسية ، ويبدو من بين أقرانه رزينًا عاقلًا، لا يعرف الجري والقفز كأبناء سنه، أغلب ألعابه وملاهيه ذهنية فكرية، وتدور حول مطارحة الشعر والمناظرة مع الطلبة.

وكان هدوءه في المدرسة يسبغ عليه مظهرًا أكبر من عمره وقد عرف مدرسوه هذا عنه فعاملوه معاملة ممتازة، غير أن الشعور بالانعزال الذي خرج به من أيام الطفولة كان يجعله قليل الاختلاط بالتلاميذ ويدفعه للوحدة[8].

وفي عمر الخامسة عشر عاش توفيق حياة خيالية؛ حياة مليئة بالمشاعر والغرائز التي تجيش في نفس فتىً في مثل عمره ، في هذا السن عرف  معنى الحب، و وقع في غرام ” بنت الجيران” ذات السابعة عشر، وهي في زيارة لعمته، فتعلقه بها كان مدفوعًا برغباته، غير أن الفتاة شغلت من ذهن الفتى الحكيم حيزًا كبيرًا وشعر بامتداد ذاتيته نحوه وفنائه فيها.

وكان يحس بفراغ في قلبه وذاته إذا غابت عنه وعن ناظريه، فيحاول أن يجد ملأها في المطالعات، وكانت مطالعة الشعر صدى هذا الإحساس، وإذ به يستقر بمطالعاته عند ديوان مهيار الديلمي لما في شعره من الرقة، وإذا بالفتى يكثر من مطالعة الشعر الوجداني، فيشغف به ويجد في ذلك ما يفرج بعض الشيء عن عواطفه الجياشة نحو فتاته.

وفي عام 1919م، ذهب الفتى ليقضى إجازة الصيف في بلدته، وانقطعت سُبل التواصل بينه وبين فتاته، كما أن الصلة بينها وبين عمته انقطعت تمامًا فلم يجد إلا حاميته السيدة زينب ليستجير بها، ولكن حاميته لم تُجره، وتفشى مرض الحب في قلب الفتى، واصفر لونه من هذا المرض ، وهنا اضطر أعمامه وأشاروا عليه  أن يذهب لمحبوبته و يعتذر منها.

أول قصة حب في حياة العقاد 

نزل هذا الاقتراح من قلب الفتى توفيق منزلة القبول، وإذا به في منزل فتاته، بعث إليها جاريتها تطلعها بقدومه، وهو يحسب ألف حساب وحساب لظهورها. وتطلع عليه فتاته جامدة عازمة على مقابلته بجفاف، ولكن منظره يبعث في قلبها الشفقة فتلين الكلام له ويذهب الفتى توفيق يحدثها عن أمره منذ افترق عنها ليقضي فترة الإجازة عند والديه إلى الساعة التي مثل فيها أمامها ويذكرها بأيامه معها ويستعيدها ذكرياتها، ولكن الفتاة عنه في عالم، فقد ملك قلبها ذلك الجار، ويحس الفتى بأن قلب فتاته قد انصرف عنه وإن مقابلته ستكون الأخيرة، فلا يملك نفسه فيجهش أمامها باكيًا، ولكن الفتاة في شغل عنه وعن بكائه بالتفكير في حبيبها، ويخرج الفتى على عجل بعد أن يترك لها مجموعة من الأوراق جمعت ما قاله فيها من الشعر والنثر

خرج الفتى من تجربته الأولى في الحب، وقد انقطعت به كل أسباب الاتصال بالحياة فلا المدرسة وواجباتها تحتل من ذهنه شيئًا، ولا المجتمع يشغل من فكره مكانًا. ولم ينقذ الفتى من آثار حبه وآلامه غير قيام الثورة المصرية في مارس عام ١٩١٩[9]

ثورة شعب 

خرج توفيق الحكيم من تلك الأزمة التي ألمت به، حينما اندمج في ثورة الشعب ثورة 1919م، وتحولت مشاعر الحب من محبوبته إلى حب وطنه، وفي ظل انفجار العواطف المكبوتة بحثًا عن الحرية تم القبض على الحكيم رغم صغر سنه، وأعمامه، وحاول والده صاحب النفوذ حينها أن يخرجهم من تلك الورطة لكن كل ما استطاع فعله أن  ينقلهم من معسكر الاعتقال بالقلعة إلى المستشفى العسكري.

وظل الفتى توفيق الحكيم مع أعمامه رهين المستشفى فترة من الزمن حتى انتهت حركات الثورة، بأن أفرج عن زعيم مصر سعد زغلول الذي كان معتقلًا بجبل طارق، فكان نتيجة ذلك أن بدأت السلطات العسكرية تفرج عن المعتلقين، ومن ضمن من أفرج عنهم الفتى توفيق وأعمامه.

وخرج الفتى من معتقله بالمستشفى العسكري، وذهب إلى حيث تقوم عزبة والده على خط دمنهور بالجيزة، إذ كانت المدارس قد عطل التعليم فيها والامتحانات ألغيت، وكان نتيجة ذلك أن نجح الفتى من وصمة العار الذي كان مقدرًا له بالسقوط في امتحان الكفاءة، الذي كان مقدرًا له دخولها في تلك السنة.

وخرج الفتى من معتقله حاملًا ذكريات حبه، وقد راض الحب نفسه وجعله يتفتح للفن ممثلًا في ضرب الشعر منه.

ومن الأهمية بمكان أن ننظر إلى تصرفات الفتى في تلك الفترة، فإننا نجده في سلوكه نازعًا منزع تخيل وتجريد راضه إليها طبيعته الحسية التي أخذت بأسباب التخيل نتيجة انسحابه لحدود نفسه.

إقرأ أيضا
البابا شنودة

الظاهر المحسوس في حياة العقاد

وهذا المنزع جعله يأخذ العالم أخذًا تجريديًّا ويرجع بالظاهر المحسوس إلى الخفي الذي وراء المحسوس، ولهذا كان شديدًا في إيمانه بالغيب، ومن إيمانه بالغيب كان يستنزل عقيدته الدينية واعتقاده في الخرافات والأساطير، نتيجة لما في محيطه من مظاهر تلفت الفكر وتستوقف النظر. ومن هنا كانت عقلية توفيق الحكيم عقلية فطرية غيبية تنزع للغيب والإيمان بالطلاسم.

وهذا النزاع الفطري في عقليته يبدو في إيمانه بالسيدة زينب على أنها حاميته الطاهرة وهذا الإيمان ليس وقفًا على أيام الصبا والشباب. وإنما هو شيء أساسي من طبيعته النفسية، ولا أدل على ذلك من أنه أهدى كتابه «عصفور من الشرق» الذي صدر عام ١٩٣٨ إلى الحامية الطاهرة السيدة زينب.

مصادر ومراجع

[1] : عباس العقاد، سعد زغلول سيرة وتحية، د. ط القاهرة ، مطبعة حجازي ، 1936م، صـ 46/ 48

[2] : توفيق الحكيم ، عودة الروح ، ط/ 3 ، القاهرة ، المطبعة النموذجية،  1955م،  ج/ 1 ، صـ 19 .

[3] : السابق نفسه صـ 35

[4] : السابق صـ  80/ 82

[5] :  عودة الروح ، ج / 1 ، صـ 126 / 129

[6] : السابق 136صـ

[7] : توفيق الحكيم ، عودة الروح ، ط / 4 ، القاهرة، المطبعة النموذجية ،  1955 ،  ج/ 2، صـ 65

[8] : عودة الروح ج /1، صـ 16، 34، 50 ، 52، 61، 92/95

[9] : عودة الروح وقصة الحب التي نشبت في تفاصيلها بينه وبين تلك الفتاة ، وهي معروضة في قالب القصة

الكاتب

  • توفيق الحكيم مي محمد المرسي

    مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان