تأملات في كلمة المندوب السامي القُرَشِي 02 فساد.. حَلّْب.. بَقّْط، أحمدك يا رب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
أن هذه الفتوحات لم تكن فتوحات استعمارية تعتمد أساليب النهب والقهر والسيطرة، وسياسات الهيمنة والتبعية، وترك البلاد خرابًا يبابًا، حتى إذا جاء الموعد المحتوم الذي لا مفر منه حمل الاستعمار عصاه ورحل. نعم لم تكن الفتوحات الإسلامية من هذا القبيل، قبيل السيطرة على الشعوب والتعامل معاها بغطرسة القوة والسلاح، ولكنها كانت فيضا جديدا من حياة عارمة، يتدفق علما وعدلا وحرية ومساواة في عروق تلك الشعوب الخائرة القوى.
الكلام ده هنقف فيه على 3 نقط ونتناقش حواليهم.
- “الفتوحات” ماكنش فيه نهب وقهر وهيمنة وتبعية ولا ترك البلاد خراب.
- “الفتوحات” ماكنتش سيطرة ع الشعوب وماتعاملتش بغطرسة السلاح.
- ذِكر وجود شعوب في الشرق الأوسط قبل “فتوحات” العرب-المسلمين.
زي ما عملنا في الحلقة الأولى هنعمل الحلقة دي، هناخد النقط المهمة اللي شيخ الأزهر أتكلم عنهم.. ونشوف هل تاريخيًا الكلام ده كان موجود على أرض الواقع؟ ولا فضيلته بيقول كلام شعبوي من اللي يعجب الناس بس مالهوش علاقة بالواقع.
مراسلات الخليفة ووالي مصر
أول نقطة هاقف عندها أن ماكنش فيها نهب، فيلا بينا نفتح كتاب فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم – تحقيق عبدالمنعم عامر، تحديدًا ص 239، هنلاقي حكاية تخوف حبتين.
الكلام ده بيوضح لنا أكتر من حاجة:
- أجدادنا ساعدوا الروم يرجعوا تاني “فتح الاسكندرية التاني”، فتطلب الأمر تسيير جيش عربي لقتالهم في الأسكندرية كمان مرة، وده كلام مالهوش غير معنى واحد.. أن أجدادنا ماستقبلوش العرب بالورود ولا حاجة زي ما مولانا قال في موضع تاني من كلمته.
مش هقول أن كان فيه مقاومة شرسة، بس كمان ماكنش فيه استقبال بالورود، الواضح أن الناس كانوا محتارين بين خيارين أحلاهما مُر (العرب ولا الروم) زي زنقتنا سنة 2012 (مرسي ولا شفيق).
- الكلام ده حصل في عهد عثمان بن عفان، بعد حوالي أربع سنين من تجربة حكم العرب.
- عبدالله بن سعد اللي عثمان عينه على الخراج يبقى أخوه في الرضاعة، ومشهور باسم عبد الله بن أبي السرح، وبإنه أول مرتد في الإسلام.
- عمرو بن العاص شاف إنه لو ماجمعش بين قيادة الجيش والخزانة يبقى كده بيمسك قرون “بقرة” لحد غيره عشان يحلبها، ورفض يلعب الدور ده ورجع الحجاز.
- الأحداث دي حصلت في عهد الخلافة الراشدة، وكل المذكورين من صحابة النبي.
القصة دي نفسها ذكرها المقريزي في الجزء الأول من المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار.
في نفس الكتاب، فتوح مصر والمغرب، من ص213 لحد 215 فيه فصل بعنوان (ذكر استبطاء عمر بن الخطاب عمرو بن العاص في الخراج)، وهو عبارة عن مراسلات بين تاني خليفة وبين أول والي على مصر. الخليفة بيستعجل الوارد من خيرات بلدنا اللي عاصمة الخلافة منتظراه.
رسايل مافهاش كلام غير عن الخراج، وصحابة شكلهم مش مستأمنين بعض.. واتهامات واضحة بفساد الذمة المالية. والأهم أن العرب والروم كانوا على تواصل، لدرجة أن قائد دول يسأل قائد دوكهم: “أنت كنت مدور المستعمرة دي أزاي؟”.. فالتاني يساعده فعلًا.
عام الرمادة
تاريخ العرب فيه مشكلة دايمة، بسبب إنهم اتعلموا عد السنين متأخر وأهتموا بالتدوين متأخر أوي، فمثلًا المفروض أنهم دخلوا مصر سنة 22هـ والمفروض أن عام الرمادة كان سنة 18هـ، يعني المجاعة قبل دخول مصر بأربع سنين كاملين.
رغم كده كذا مؤرخ عربي/مسلم ربط بين خيرات مصر وعام الرمادة، من أشهرهم ابن كثير في كتابه البداية والنهاية، الجزء7 – ص90، قال أن خلال المجاعة بعت الخليفة يستغيث بوالي مصر عمرو بن العاص ووالي البصرة أبي موسى، فكل واحد منهم بعت قافلة ضخمة محملة بالمؤن.
فالسؤال: هل أهل البلاد دي وخلال وقت قصير جدًا وقعوا في حب العرب المسلمين لدرجة إنهم يقطعوا من قوتهم ويبعتولهم قوافل ضخمة تنقذهم من المجاعة؟ ولا المؤن دي تم جمعها أزاي؟
النوبة ومعاهدة البقط
كتاب فتوح مصر والمغرب، سبق ذكره، فيه درر عن تفاصيل دخول العرب/المسلمين لبلاد شمال أفريقيا وتصرفاتهم خلال الحروب أو بعدها، فتعالوا ناخد فكرة عن تعاملهم مع بلاد النوبة.
من صفحة 252 لحد 255 فصل عنوانه (ذكر النوبة وفتحها)، بيحكي عن فشل العرب-المسلمين بقيادة عقبة بن نافع في دخول النوبة، ثم نجاحهم النسبي بعدها بعشر سنين بقيادة عبد الله بن أبي السرح، وإنه لما حقق النجاح النسبي ده عقد مع النوبة اتفاق عرف باسم معاهدة البقط.
اتفاقية بمقتضاها يقدم حاكم النوبة لوالي مصر عدد من الرقيق ليهم شروط معينة، كمان يلزم حاكم النوبة إنه يرد أي حد يهرب من مصر ويروح عنده، عبد هارب ولا واحد مسيحي طفش.
د. محمود الرويضي قدم لقسم التاريخ في كلية العلوم الاجتماعية بجامعة مؤتة دراسة بعنوان بلاد النوبة واتفاقية البقط، أعتمد خلالها على كلام المقريزي اللي ذكر أن الاتفاقية أشتملت على تقديم المسلمين بضايع يبعتها والي مصر لملك النوبة منها (قمح، شعير، خمرة، أقمشة).
تاريخ مخفي
تاني نقطة هاقف عندها أن ماكنش فيه سيطرة ع الشعوب ولا تعامل بغطرسة السلاح، أفضل رد على النقطة دي هو كتاب المهمشون في التاريخ الإسلامي، اللي رصد بلغة سردية جميلة ورشيقة مختلف الثورات اللي قامت طوال تاريخ دولة الخلافة بمختلف مسمياتها.
صاحب الكتاب، أ. د. محمود إسماعيل، ماجبش الحواديت المذكورة في الكتاب من عندياته، إنما بحث ودقق واستخرجها من كتب التراث والتاريخ العربي-الإسلامي، حواديت مرعبة مش هيقابلها غير المتخصص في التاريخ أو الباحث المدقق، حكايات عن شعوب وجماعات ثارت على ظلم الولاة والخلفاء العرب-المسلمين.. وأزاي تم التعامل معاهم بمنتهى القسوة والوحشية.
قصص كلها موجودة في كتب التراث والتاريخ الإسلامي.. بس مسكوت عنها ولا يتم التطرق ليها ولا إدراجها في المناهج التعليمية، عشان مولانا (أي مولانا) لما يحب يقول أي كلام.. يلاقي جمهور غالبيته الكاسحة ماتعرفش حاجة عن الوجه الدموي لتاريخ العرب-المسلمين.. فيصدقوا الشيخ الطيب البشوش.
من الحواديت الكتيرة، الجميلة على مستوى السرد والمرعبة في تفاصيلها واللي دايمًا بتتكرر فيها جملة: (وقتل منهم خلقًا كثيرًا)، هاكتفي بذكر ثورتين بس، ثورة البشموريين وثورة الزنج.
القمع هو الحل
ثورة البشموريين كانت حدانا هنا في الدلتا.. وأتكررت مرتين أو حصل منها موجتين، الأولى ضد الدولة الأموية والتانية ضد الدولة العباسية، الثورة التانية كانت أقوى وأتواجهت بعنف أكبر من جيش الخلافة بقيادة الخليفة المأمون (بتاع مصر الجديدة).
ثورة الزنج برضه نسختين.. بس كانت في العراق والشام، والأتنين كانوا ضد الدولة العباسية، والمقصود بالزنج هنا الزنوج أو السود، والثورة دي قامت في العراق والشام، طب أزاي وصل أفارقة بأعداد كبيرة للعراق والشام؟. الحكاية وما فيها أن العرب-المسلمين كانوا بيخطفوا ناس من سواحل شرق أفريقيا ويستعبدوهم.. عشان يزرعولهم الأراضي اللي استولوا عليها في بلاد بين النهرين.
الفكرة اللي الغزاة الأوروبيين كرروها مع سكان غرب أفريقيا، عشان يزرعولهم الأراضي اللي استولوا عليها في الأمريكتين.
إما تفاصيل الأحداث فمذكورة في أكتر من مصدر منها الجزء التاسع من تاريخ الطبري، (سلسلة ذخائر العرب – تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم)، هنلاقي فصل بعنوان “خبر الإيقاع بالزنج لهذا العام” (يقصد 267 هجري)، الفصل ممتد من ص589 لغاية 599.
فيه الخير
خلال وصفه للغزوات/الفتوحات (العربية -الإسلامية) قال الشيخ نصًا: “ كانت فيضا جديدا من حياة عارمة، يتدفق علما وعدلا وحرية ومساواة في عروق تلك الشعوب الخائرة القوى”، فخلاني أحب أشكره مرتين.
مرة عشان أفتكر أن المنطقة فيها شعوب عايشة من قبل وصول العرب، ومرة لتأكيده على إنه بيكلمنا بوصفه مندوب قريش في المنطقة، فشايف شعوب المنطقة أخر بعيد يشير إليهم بجملة (تلك الشعوب).
آسف ع الإطالة.. ونتقابل قريب في الحلقة التالتة من تأملات في كلمة المندوب السامي القرشي.
الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال