رئيسة التحرير
رشا الشامي
همتك نعدل الكفة
25   مشاهدة  

تاريخي ! … “برضه” المصري يكسب

المصري


للوهلة الأولى! قد تظنّ عزيزي القارئ أني سأقصُّ عليك أسطرًا من التاريخ المصري التليد، أو سأبسّط الحديث عن روايات الـعزّ المصرية التي لم تخلُ منها حقبة زمنية، على الرغم من أنّ فعل ما تقدّم مُحبّبٌ إليّ إلا أني في بعض الأحيان أشعر أنه من السخف بمكانٍ أن نقوم بإيضاح الواضحات، ولله درّه من متنبٍّ إذْ كفانا مؤونة المشاغبين والمشغّبين واختصر القول معهم حين قال:

وليس يصحّ في الأفهام شيءٌ             إذا احتاج النهار إلى دليلِ

كلّ ما في الأمر أنّ هناك مسلسلًا تاريخيًّا وافق عرضه هذه الأيام على الشاشات هجومًا وانتقاصًا من قدرة الفنان المصري على لعب وتجسيد الأدوار التاريخيّة بحرفيّة وسلاسة من دون تكلّف وركاكة، وشرعوا بمقارنات افترقت هي والإنصاف في مسيرهما، فسلك الإنصاف طريقًا غير الذي سلكته مقارناتهم…

 

تغريدة داود الشريان
تغريدة داود الشريان

 

إنني أجد من الظلم مقارنة الفنان المصري بغيره، ليس ظلمًا له بقدر ما هو ظلم لذلك المسكين الذي وضع نفسه أو تمّ وضعه في هذه المقارنة التي ستنتهي بخسارته لا محالة، وتُبقي لمن أراد الانتقاص والنيل مِن تمكُّن الممثل المصري قولَ الحسين بن حميد :

يا ناطح الجبل العالي ليكْلِمه             أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

على كل حال .. لننزل معهم ونرَ!!

 

 

في مسلسل الحجاج، كان الدور الرئيسيّ والمحوريّ يعود للفنان السوري عابد فهد، وعليه “تُخّدِم” باقي الأدوار، وبالمناسبة هو عمل تمّ إنتاجه في العام ٢٠٠٣، وأنتجه عدنان العواملة الأردني، وفيه نجدُ، على سبيل المثال لا الحصر، مشهدَ تنصيب الحجّاج واليًا على العراق وخطبته الشهيرة في أهل العراق “إني أرى رؤوسًا قد أينعت…”، ثمّ نضع أمامه المشهد نفسه ودور الحجاج في مسلسل عمر بن عبد العزيز، والذي قام بلعبه القدير عبد الرحمن أبو زهرة مع مراعاة أنّ الأخير إنتاجه حكوميّ محدود أنتجه قطاع الإنتاج المصري وليس شركة خاصة، ومراعاة أنه أُنتج في العام ١٩٩٥, أي أنّ هناك ٩ سنوات من تكنولوجيا التصوير والإخراج والمكياج والإضاءة والصوت كلّها تحسب لعابد فهد، ومع مراعاة أنّ أبا زهرة كان يلعب دورًا ثانويًّا وليس هو الدور الأساسي في العمل، على الرغم من كل ذلك نجد أنّ إتقان الدور ومعايشة الشخصية والتمكّن من الأداء اللغوي التمثيلي للنصّ يميل لكفة أبي زهرة بل إنّ هناك تفصيلات دقيقة لم تغب عن المعالجة المصرية للشخصية مثل دخول الحجاج ملثّمًا واعتلائه المنبر وإلقائه البيت الشهير الذي استهلّ به الخطبة:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا                متى أضع العمامة تعرفوني

ألقاه ثمّ كشف عن لثامه، وهو التصرّف المنطقيّ المفهوم من سياق الحديث، على عكس ما فعله عابد فهد حين خلع العمامة ثمّ أنشد البيت، ومن الطبيعي أنّ الجميع قد عرفه حين خلع لثامه فما مناسبة البيت وأي غرض منه سيتبقّى من التشويق وإيصال مشاعر الترقّب والتوجّس للسامع، مثل هذه التفصيلات الصغيرة تشهد لحرفية المخرج والمؤدّي المصري للنصّ التاريخي.

ثمّ نعرّج سويًّا على عمل آخر، وهو الإنتاج القطريّ المشترك مع  MBC لمسلسل عمر الذي تمّ في العام 2012، ونأخذ مشهدًا من كتابة وليد سيف وإخراج حاتم علي تحديدًا في شخصية حمزة التي قام بأدائها الممثّل المغربي محمد مفتاح لنقارنه بعمل آخر للمشهد نفسه، مشهد إسلام حمزة بن عبد المطلب، ولكن هذه المرّة، من سوء حظّ الفنان محمد مفتاح، كانت المقارنة مع العملاق عبدالله غيث الذي أدّى المشهد نفسه في فيلم الرسالة في العام 1976، والمشاهد أمامك عزيزي القارئ، ولا داعيَ لكثرة كلام لن يوفي حقّ الأسطورة عبدالله غيث في تمكّنه وفصاحته وتلبّسه الشخصية في حركاته وسكونه وكلماته وصمته ونظراته التي امتلأت فتوّة ورجولة ومهابة، أضف إلى ذلك جمال النص وأداء المشهد الذي من قوّته دفع “أنتوني كوين” للوقوف والتعلّم من تعابير وجه عبدالله غيث ونظراته قبل حركاته في تجسيد الشخصية كي يطبّق ما تعلّمه منه في النسخة الإنجليزية للعمل، ولا أدري ما الذي أصاب صنّاع المشهد ذاته في مسلسل عمر، ولولا ستْر الله، وتغيير نبرة صوت الشخصية بصوت مستعار، لكان المشهد مصنّفًا في تعداد المشاهد الكوميدية المتكلّفة!! وعلى الرغم من مرور 36 عامًا من مدرسة غيث في أداء شخصية حمزة والتي تخرّج منها أنطوني كوين، لم يرقَ مشهد عبد الفتاح إلى سموّ ما قدّمه غيث ولا حتّى قليلًا، فضلاً عن أن يكون ندًا له.

وباب المقارنات كبير، لن نستطيع أن نوفّيه حقّه في مقال واحد، يكفي أنّ المطّلع على خريطة الدراما التاريخية يجد الدراما التاريخيّة المصرية تحديدًا رائدةً في طرحها ومعالجتها للقصص والشخصيّات والأحداث، فنجد شخصيّة مثل شخصية صلاح الدين الأيوبي عالجها صنّاع الدراما المصرية في عمل بجزئين ألا وهو نسر الشرق، أُنتج في عامي 1999 / 2000 من إخراج حسام الدين مصطفى وكتابة محمد أبو العلا السلاموني، ليأتي على إثره الثنائي وليد سيف وحاتم علي بمسلسل صلاح الدين الأيوبي من إنتاج العام 2001، ثمّ مرورًا بالحقبة الأندلسيّة في التاريخ العربي الإسلامي وهي التي يظنّونها فرس الرهان عندهم، نجد أنّ الصناع المصريين أهل الحرفة والصناعة الماهرة أمثال مصطفى محرم وحسام الدين مصطفى وخالد بهجت ومحمود ياسين ونبيلة ياسين وأحمد طنطاوي أوّل من غاص في بحار التاريخ، ونقّب واستخرج اللآلئ، وضمّها ليصنع حليًّا بديعةً ترتديها أعمال كُتبت بنصوص رصينة جميلة وقُدّمت في غير عمل نذكر منها:

  • زهراء الأندلس إنتاج عام 1983
  • الحب قبل السيف إنتاج عام 1998
  • رياح الشرق إنتاج عام 1998

ليلتحق الثنائيّ (وليد سيف وحاتم علي( بذاك القطار بعد مضيّ سنين على انطلاقه مدفوعيْن بمعيّة شركة سوريا الدولية للإنتاج ليقدّموا لنا ثلاثيّتهم الجميلة:

  • صقر قريش إنتاج عام 2002
  • ربيع قرطبة إنتاج عام 2003
  • ملوك الطوائف إنتاج عام 2005

ومن باب الطرفة والدعابة فقط أذكر أنّ سوء الطالع قد طرق باب الفنان محمد مفتاح للمرّة الثانية عندما أدّى دور الشاعر ابن عمار في ملوك الطوائف 2005، ليضعه في مقارنة ثانية مع الأسطوري عبد الله غيث بطل المسلسل المصري ابن عمار الذي أُنتج في العام 1985 والذي خطّته أنامل الرائع ثروت أباظة، وتوّجه غيث بأداء مذهل لم يُسبق إليه ولم يجارهِ فيه أحد بعده.

 

كنت أودّ إضافة فقرة للمقال أسرد فيها بعضًا ممن تحضرني اسماؤهم من الفنانين المصريين الذين أجادوا التمثيل بالعربية الفصحى، فوجدت قائمة قد جاوزت الخمسين اسمًا، وهو عددٌ ليس بالقليل، منهم من لا يزال على قيد الحياة و يمارس عمله الفنيّ، وهو مما يطول ذكره، فعدلت عن ذلك وأردت أن أستبدلها بقائمة من الأعمال التاريخية المصرية التي أثرت بها المكتبة الفنّية فوجدت أيضًا أعمالاً كُثْرًا ( بتسكين أوسط الكلمة)، لا كما درج قوله على لسان السوريّيْن تيم الحسن وجمال سليمان، بطلا ثلاثية حاتم علي في مخالفة لما ورد في لسان العرب:

والكُثْرُ، بالضم، من المال: الكثيرُ؛ يُقال: ما له قلٌّ ولا كثرٌ؛ وأنشد أبو عمرو لرجل من ربيعة:

فإن الكُثر أعياني قديمًا           ولم أُقْتِر لدن أني غلامُ

ويُقال: الحمد لله على القلِّ والكثرِ والقلِّ والكِثرِ. وفي الحديث: (نِعْمَ المالُ أربعون والكثرُ ستون)؛ الكثرُ، بالضم: الكثيرُ، كالقلِّ في القليل، والكثرُ معظم الشيء وأكثره.

إقرأ أيضا
عماد فاروق

وهي أعمال يطول بسطها وبيانها، ولا تخفى عن متابع هاوٍ للدراما العربية والمصرية… فأين المشكلة إذن؟

 

إنّ القبول الذي لاقاه النصّ الروحاني الذي كتبه عبد السلام أمين وأخرجه أحمد توفيق في رائعته خامس الخلفاء الراشدين الذي تمّ إنتاجه بأموال المصريين الحلال لهو أجمل ألف مرّة من أعمالٍ صُرفت عليها الملايين من أموال خبيثة جاءت محمّلة بأوزار أرواح كثيرة أدمنت على “كبتاجون” كأموال محمد حمشو صاحب سوريا الدولية للإنتاج الفنيّ. فشتّان بين من صنع معالجةً لقصص التاريخ ليحفظ كيان أسرة ويعلي شأن أمّة، وبين من اتّخذه ذريعة ليغسل أموال جرائمه، ويغلّفها بثوب الفنّ والتاريخ، فريح الطهر تفوح من الأول وأثواب العار والشنار لا زال يجرها الأخير…

وعليه، فإن شئت المجاملة ستقول إنّ الدراما التاريخية العربية هي امتداد وتطوير للدراما التاريخية المصرية، وسِباحةٌ في فَلَكِها على فُلكٍ صَنعتْه ونادت يا بَنّي اركبوا معنا، وإن شئت الإنصاف، فهي إعادة إنتاجٍ وترميمٍ بإمكانات وتكنولوجيا بنت زمنها لم تكن تتوافر آنذاك، غير أنّ عدم توافرها لم يعِق المصريّ -“الشاطرة تغزل برجل الحمار”- أن يقدّم الواجب الثقافي والتعليمي للأجيال الناطقة بالعربية أيضًا..

وهنا أتّخذ ما كتبته من كلمات سلّمًا أصعد عليه وأنادي في بني وطني المصريين صنّاع الدراما والسينما والمسؤولين عنها متمثلاً قول الشاعر ابن الثغر السكندري سيد درويش:

“ليه يا مصري كل أحوالك عجب
تشكي فقرك وانت ماشي فوق دهب”

آن الأوان لإعادة إحياء قطاع الإنتاج وتبنّي أعمال تليق بمصر وتاريخها الفنّي الرائد، ما سيَجبُّ الغيبةَ عنها ويلجم لسان كلّ متطاولٍ عليها أو مشكّك منتقص من قدرة وكفاءة فنّانيها.

ومن شخص خبر التجارة وسبر أغوارها: يا أهل الإنتاج الفنّي، هناك سوق كبيرة متعطّشة لعمل محترف تعيدون به أمجاد آباء المهنة العظام، فلا تخافوا من دخوله، فأهل مصر ما زالوا بخير، ومصر مبروكة مباركة، تبارك من بذل لها ولأجلها، والثقافة في مصر قد تمرض حينًا… لكنّها أبدًا لا تموت.

وفي الـ “تاريخي” برضه المصري يكسب.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان