تاريخ العرب وأسطورة الذاكرة السوبر
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
يرتكز التراث العربي، قبل الإسلام وبعده، على الشفاهة؛ فعلاقة العرب بالتدوين جاءت متأخرة نسبيًا، بالنسبة لواحدة من أهم الدول في “عصر الأمبراطوريات” وأكثرها تأثيرًا لحد دلوقتي، حيث بدءت أول خطواتهم في المجال ده يادوب في نُص القرن السابع الميلادي.
أزمة التقديس
على عكس الأمبراطورية الرومانية المسيحية، كانت الأمبراطورية العربية مرتكزة على خلفية دينية بتاعتها هي مش وافدة عليها، بالتالي رغم دخول العرب عصر التدوين وفرضهم للغتهم كلغة العِلم عند كتير من شعوب العالم، بس فضلوا دايمًا يمجدوا في قيمة الحفظ وأهمية انتقال المعلومات شفاهة.
وده غالبًا بسبب قدسية التراث الديني عند العرب تم جمعه وتدوينه بعد أجيال من التناقل الشفاهي، الكلام هنا عن السير والأحاديث، بالتالي كانت القيادة السياسية المكتسبة شرعية حكمها من الدين محتاجة تدافع عن تنزيهه من أي خطأ أو نقصان.
بناء عليه حصل كلام كتير حوالين مدى قوة ذاكرة العرب وإزاي هي حاجة أصيلة فيهم وفي طبيعتهم، في حالة من الدفاع عن الشفاهة عَبْر تمجيد مَلَكَة الحِفظ عند الإنسان؛ ونقدر نرصد ده في أسلوب التعليم التلقيني المعتمد ع الحفظ والمنتشر عند غالبية الناطقين بالعربية.
نقدر نرصده كمان في الاحتفاء الكبير بحفظ القرآن أكتر من فهمه. فنلاقي عشرات المسابقات الكبرى لحفظ القرآن.. ومافيش مسابقة واحدة في فهمه، بل إن عملية الفهم بيتم تعليمها عن طريق حفظ أراء المفسرين الأوائل.
السؤال.. وطريقة الإجابة
هل أمتلك العرب فعلًا ذاكرة ماوردتش على بشر؟ لدرجة إن ممكن إعتماد تراثهم الشفاهي بوصفُه تراث ديني يرسم مسار حياة كافة المسلمين في العالم على مر العصور.. ويحدد مقدراتهم؟.
للإجابة هنفتح كتب التراث العربي-الإسلامي وننقي منها حدثين مهمين ونقارن بين الروايات اللي رصدتهم، ونشوف مدى أتفاق المصادر على الأحداث.
ميلاد النبي
سبق في موضوع أيهما أهم الدقة أم الحلاوة أتعرضنا لمسألة اختلاف المؤرخين في يوم ميلاد النبي، بس ماروحناش لأبعد من الاختلاف حوالين اليوم.
في الواقع أن المؤرخين وكتاب السيرة مختلفين فيما هو أكتر وأعمق من كده، ألا وهو أبو النبي مات أمتى، غالبيتنا نعرف إن النبي أتولد يتيم وإن أبوه “عبد الله بن عبد المطلب” مات قبل ما هو يتولد.
بس ماحدش في المدرسة قالنا إن ده مجرد رأي مختلف عليه، فمثلا في القرن الستاشر المؤرخ الصالحي الشامي في الجزء الأول من كتابه سُبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد خصص فصل بعنوان “في وفاة عبد الله بن عبد المطلب” رصد فيه عدة روايات عن وقت الوفاة بالنسبة لعمر النبي.
فقال إن ابن إسحاق والوقادي والبلاذري وابن القيم الجوزية والذهبي وغيرهم أتفقوا على إن عبد الله مات خلال فترة الحمل.
بس فيه آراء تانية بتقول إنه كان في المهد “طفل رضيع”، وذكر إن الأراء دي تفاوتت في تقدير عمر النبي عند وفات أبوه.. شهرين ولا تِسَع تُشهُور ولا كان عنده سنتين وكام شهر.
طبعًا فيه ناس هتشوف الفروق دي طفيفة مقارنة بالزمان والمكان وعدم وجود أي سجلات من أي نوع، وأنا عن نفسي مع الرأي ده.. إنما رجال الدين همه اللي مش معاه وبيعارضوه بشدة، عن طريق كلامهم بخصوص الذاكرة الحديدية والقدرة على تذكر أدق التفاصيل على مر العصور، لدرجة إن يكون فيه أحاديث منسوبة للنبي تزيد عن صفحة بحجم A4، والمفترض إن فيه سلسلة من الناس حفظت الكلام ده صم لإنهم عرب.
نسب النبي
الخلاف حوالين تاريخ ميلاد النبي مش واقف على قد تحديد اليوم أو السؤال حوالين وقت موت الأب هل كان وهو جنين ولا بعد ما أتفطم، إنما الخلاف بين الروايات واصل لمستوى يفتح الباب للتشكيك في نسب النبي.
ففي صحيح الترمذي حديث منسوب للعباس بن عبد المطلب إنه قال: “قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ! إنَّ قُرَيشًا جلَسوا فتذاكَروا أحسابَهُم بينَهُم، فجَعلوا مَثلَكَ مثلَ نَخلةٍ في كَبوةٍ منَ الأرضِ. فقالَ النَّبيُّ: إنَّ اللَّهَ خلقَ الخلقَ، فجعَلَني مِن خَيرِ فِرَقِهِم، وخَيرِ الفريقَينِ، ثمَّ خيَّرَ القبائلَ، فجَعلَني مِن خَيرِ القبيلةِ، ثمَّ خيَّرَ البيوتَ فجعَلَني مِن خَيرِ بيوتِهِم، فأَنا خيرُهُم نفسًا، وخيرُهُم بَيتًا“.
الراوي: العباس بن عبدالمطلب – المصدر: سنن الترمذي – حكم المحدث: حسن
إيه الحكاية دي؟ واللخبطة دي سببها إيه؟؟
كل الحكاية لخبطة في الذاكرة أدت لورايات متضاربة أدت بالصدفة أن تتبع تصديق خط معين من الروايات المتضاربة ينفع يوصل لنتيجة بالشكل ده، وهنا أنا مش متبني الرأي ده ولا يهمني أصلا، إنما باقدمه كتوضيح لمستوى تخبط الروايات العربية وقد إيه مافيش حاجة ممسوكة ولأي مستوى الحقايق سايحة على بعض.
الأب وابنه نسايب
في أول مجلد من الطبقات الكبرى هنلاقي قصة جواز عبد الله بن عبد المطلب أبو النبي من أمه أمنة بنت وهب، فبيقول إن عبد المطلب خد ابنه عبد الله وراحوا سوا بيت الحاج وهب بن عبد مناف.
وهناك خطب لأبنه أمنة وخطب لنفسه أختها هالة، وعملوا الفرح مزدوج، وبكده بقى الأب وأبنه عدايل، والأختين لما يخلفوا عيالهم هيبقوا من ناحية الأم ولاد خالة ومن ناحية الأب عم وابن أخ.
ثم في حتة تانية نفس المصدر يحكيلنا قصة استشهاد عم النبي حمزة بن عبد المطلب، وهو يبقى من ناحية الأم ابن خالته، أيوه أمه تبقى هالة أخت أمنة أم النبي، واللي حسب الرواية السابقة اتجوزوا أب وأبنه في نفس اليوم.
بتقول رواية استشهاد حمزة إنه قتل يوم أحد بعد أتنين وتلاتين شهر من الهجرة وكان عمره وقتها تسعة وخمسين سنة، وإنه كان أكبر من النبي بحوالي أربع سنين.
هنا بالظبط يبقى عندنا روايتين في نفس المصدر بيقولوا كلام مش راكب على بعضه تماما، منين عبد الله وأبوه أتجوزوا آمنة وهالة في نفس اليوم ثم عبد الله مات بعد الجواز بكام شهر، ومنين عبد المطلب يخلف من هالة عيل أكبر من ابن عبد الله وآمنة؟!
الإجابة ببساطة إن الروايات دي فيها خلل، والخلل ده طبيعي جدًا يحصل في ظِل الاعتماد على الذاكرة في حفظ المعلومات والشفاهة في نقلها، وده أمر حاصل في كل شعوب الأرض.
القائمين على الكهنوت الإسلامي مصدر سلطتهم ورزقهم هو روايات فلان عن علان وترتان عن زعبران ورمضان بعد شعبان.. إلخ، فطبعًا مش هيفسروا حالة الخلل دي بالتفسير الأحب لقلوبهم.. وهو إن فيه مؤامرة وشبهة مردود عليها.
ماشي اللي فاتت دي مؤامرة كونية للنيل من نسب النبي، فهنبص كلنا على عصفورة المؤامرة وننسى خالص إن العصفورة واقفة على شجرة وهم الذاكرة العربية التي لا يشق لها عُفار.
بس بالنسبة لجواز النبي من خديجة بنت خويلد.. هو كمان فيه مؤامرة؟؟
موقف أبو خديجة من جوازها بالنبي
في كتاب “محمد صلى الله عليه وسلم” تعرض الكاتب محمد رضا روايات مختلفة لواقعة جواز النبي من السيدة خديجة بنت خويلد.
الرواية الأولانية بتقول إن عمها عمرو بن أسد هو اللي جوزها، لأن أبوها مات قبل الجواز بحوالي عشر سنين، والرواية التانية بتقول إن أبوها كان عايش وحصل موقف غريب هاسيب الشيخ محمد حسان يحكيه هو.
هنا أصمت قليلًا واسيبكم مع النموذجين دول، كمثال لحالة منتشرة في كتير جدا من وقائع التاريخ العربي-الإسلامي، وتحكموا بنفسكم على مدى قوة الذاكرة العربية، وهل ينفع تكون هي مصدر تشريع المسلمين على مر الزمان وفي كل مكان ولا مايصحش؟
الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال