رئيسة التحرير
رشا الشامي
همتك نعدل الكفة
64   مشاهدة  

ما بين فخر الشريف وفخر العاجز.. تاريخ الدول وثقافتها واقتصادها

اقتصاد
  • د. أحمد حسن عبد الهادي ـ دكتور المالية العامة والتشريعات الإقتصادية والضريبية - زميل الجمعية العلمية للتشريع الضريبي



لطالما لعب التاريخ دورًا محوريًا في تشكيل هوية الدول وتعزيز مكانتها على الساحة الدولية، غير أن استثماره كمورد اقتصادي ما يزال مجالاً واعدًا لم يُستغل بالشكل الأمثل في كثير من البلدان. التاريخ لا يُعد فقط رصيدًا ثقافيًا، بل يمكن توظيفه كأداة استراتيجية لدعم الاستثمار وتعزيز الاقتصاد، خاصة في دول ذات حضارات عريقة مثل مصر.

التاريخ كعنصر جاذب للاستثمار

تلجأ العديد من الدول إلى استغلال تراثها وتاريخها العريق لترويج نفسها كمقصد استثماري وسياحي، من خلال تطوير البنية التحتية المرتبطة بالمواقع التاريخية، وتنظيم الفعاليات العالمية، وإنشاء بيئة تشريعية جاذبة للاستثمارات المرتبطة بالثقافة والسياحة والتراث والفن. ويمثل هذا النوع من الاستثمار أحد أنماط الاقتصاد الإبداعي الذي يشهد نموًا عالميًا متزايدًا.

الثقة في الاستثمار تنبع من التاريخ

عندما تتمكن دولة ما من توظيف تاريخها بشكل مدروس، فإنها لا تُظهر فقط جانبًا من هويتها، بل ترسل رسالة واضحة للمستثمرين مفادها أنها دولة ذات جذور مستقرة، وهو ما يعزز الثقة في بيئتها الاستثمارية.

فالتاريخ المستقر والمُدار بعناية يعكس أيضًا قدرة الدولة على الحفاظ على مواردها وإدارتها عبر العصور، مما يُعد مؤشراً قويًا على قدرتها على حماية الاستثمارات الحديثة. كما أن التاريخ قد يكون بابا خلفيا لحروب وصرعات خفية تحاول النيل من تاريخ الامم وحضارتها وذلك بالحط من قيم تاريخية اصيلة لا لشىء إلا لتقليل تأثير وفاعلية التاريخ الذي حُرم منه البعض.

ضرورة وجود تشريعات تحمي التاريخ وتدعمه اقتصاديًا

لا يمكن الحديث عن استثمار التاريخ دون الإشارة إلى أهمية وجود إطار قانوني وتشريعي صارم يضمن حماية هذا التراث من أي عبث أو استغلال سلبي. فكما أن التاريخ يُعد رصيدًا قوميًا واقتصاديًا، فإن المساس به يجب أن يُعامل كجريمة في حق الأمة وموروثها الحضاري.

التشريعات كضمانة للمستثمر

وجود قوانين واضحة لحماية التاريخ لا يخدم فقط البعد الثقافي والتاريخي، بل يمنح المستثمر ثقة مضاعفة بأن الدولة تتعامل بجدية مع تراثها، وتمنح الأولوية لصون مواردها الرمزية والاقتصادية. فحين يعلم المستثمر أن الأصول التاريخية التي تُستثمر في محيطها محمية قانونيًا، وأن هناك عقوبات رادعة على أي تجاوز، وحين يعلم يقينا أن الدولة لن تغامر بتاريخها فإنه يطمئن لاستقرار مشروعه ويقبل على الاستثمار دون تردد.

ومن الضروري أيضًا سن قوانين تشجع على الاستثمار المسؤول في المواقع التاريخية، بما يضمن الحفاظ على الهوية المعمارية والأثرية، مع فتح المجال أمام التطوير السياحي والثقافي ضمن ضوابط صارمة تحافظ على الأصالة، إضافة الى أن التاريخ ليس فى المواقع فحسب بل فى مكانة ومهابة يمنحها القِدم حتى تصيرَ الدوله “حَكَمَاً وحَكِيما”.

تجارب دولية ناجحة

فرنسا: استطاعت باريس، عبر الحفاظ على معالمها التاريخية مثل قصر فرساي وبرج إيفل، أن تجذب استثمارات ضخمة في قطاعات السياحة والفندقة والضيافة، ما جعل السياحة الثقافية مصدرًا رئيسيًا للدخل القومي. كما ساهم هذا التراث في ترسيخ صورة فرنسا كدولة مستقرة ومرموقة، وهو ما انعكس إيجابيًا على قطاعات استثمارية أخرى.

الصين: تبنت بكين سياسة “تسويق التاريخ” من خلال ترميم سور الصين العظيم، وتحويله إلى منتج سياحي متكامل، وهو ما زاد من ثقة المستثمرين الأجانب في الاقتصاد الصيني وقدرته على الحفاظ على استثماراتهم.

تركيا: ركزت إسطنبول على المزج بين الإرث العثماني والتطوير الحضري لجذب استثمارات ضخمة في قطاعات العقارات والسياحة، واستطاعت بذلك أن تعزز من جاذبيتها الاقتصادية وتبني ثقة الأسواق العالمية.

مصر: إمبراطورية التاريخ تنتظر الاستثمار الذكي

تملك مصر واحدة من أغنى الحضارات في العالم، حيث يتربع على أراضيها أكثر من ثلث آثار العالم، من الأهرامات وأبو الهول إلى معابد الكرنك ووادي الملوك. لكن رغم هذه الثروة التاريخية، لا تزال العوائد الاقتصادية دون المستوى المأمول. وهنا تظهر الحاجة إلى استراتيجية متكاملة لاستثمار هذا الإرث الحضاري.

مقترحات لتفعيل التاريخ في خدمة الاستثمار في مصر:

1. تحفيز الاستثمار الخاص في المناطق الأثرية: عبر تقديم حوافز ضريبية، وتبسيط الإجراءات للمستثمرين في قطاع السياحة الثقافية.

2. تحويل المواقع الأثرية إلى مشروعات اقتصادية مستدامة: من خلال بناء متاحف رقمية، وتنظيم عروض صوت وضوء، وتقديم خدمات سياحية مبتكرة.

إقرأ أيضا
كتاتيب المسيحيين في مصر

3. إطلاق حملات دعائية عالمية تحت شعار “مصر التاريخ والمستقبل”: تبرز فيها مصر كمقصد للاستثمار الثقافي، وليس فقط السياحي.

4. إبراز الاستقرار التاريخي كعامل جذب: من خلال تقديم مصر كدولة عريقة شهدت استقرارًا حضاريًا عبر آلاف السنين، مما يطمئن المستثمرين حيال مستقبل مشروعاتهم.

5. إقرار تشريعات لحماية التراث: تكفل معاقبة أي مساس أو استغلال سلبي بالمواقع التاريخية، وتؤكد جديّة الدولة في الحفاظ على ماضيها كضمان لمستقبلها الاقتصادي.

التاريخ ما بين فخر الشريف وفخر العاجز

إن الدعوة للحفاظ على تراث الامة وحضارتها ليكون انطلاقا نحو حاضر مشرق ليس مقصدا لذاته وانما الدعوة تكون انطلاقا من مقولة ” زرعوا فأكلنا ونزرع ليأكلو” تلك المقولة التى تحمل روح الامتنان والانتماء والتواصل بين الأجيال، ولكنها لا تقف عند هذا الحد، والذى يعنى فخرا عاجزا، وإنما يتعداه الى أن نرى فى أفعالنا امتداداً لفضل غيرنا، واستمراراً لمسيرة نفع لا تنقطع فهذا فخر الشريف وهذا ما نقل من قول الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ” إن لنا من الأعمار ما بلغنا، ولهم من الأعمار ما سيبلغون، فليكن لهم من غرسنا ما ينتفعون به”

إن توظيف التاريخ في خدمة الاستثمار ليس ترفًا بل ضرورة، خاصة في ظل المنافسة العالمية على جذب رؤوس الأموال. وإذا كانت دول مثل فرنسا والصين وتركيا قد استطاعت أن تحوّل ماضيها إلى مستقبل اقتصادي مشرق، فإن مصر، بما تملكه من إرث حضاري فريد، قادرة على أن تتصدر المشهد العالمي إذا ما وُضعت استراتيجية شاملة تراعي البعد التاريخي ضمن خطط التنمية والاستثمار، وتعمل على تقديمه بوصفه عنصر ثقة واستقرار يُغري المستثمر ويضمن العوائد.                                                                         

 اقرأ أيضًا : بعد الضربة الأمريكية .. هل تسرع إيران إعلانها بامتلاك السلاح النووي                                                           

الكاتب

  • تاريخ د. أحمد حسن عبد الهادي

    د. أحمد حسن عبد الهادي ـ دكتور المالية العامة والتشريعات الإقتصادية والضريبية - زميل الجمعية العلمية للتشريع الضريبي






ما هو انطباعك؟
أحببته
2
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
4


Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان