همتك نعدل الكفة
758   مشاهدة  

رحلة من عباءة المشيخة إلى ثوب الطرب

رحلة


كثيرا ما يسألني البعض، كيف تجمع بين تلاوة القرآن وغناء الكلام البشري (الفن الدنيوي)؟
بحثت حول الفلسفة التي يمكن أن تنتج سؤالا كهذا، وتوصلت إلى نتيجة قد تكون كافية للإجابة على هذا التساؤل.
في الواقع يجب أن نرجع للدافع الذي حرك هذا التساؤل في ذهن البعض، نحن في مجتمع أغلبه يدين بدين الإسلام وسمته المحافظة التي تستند إلى الدين والأعراف والتقاليد، ولذلك يستند هذا التساؤل على عنصرين هامين:
الأول وهو الدين، أما الثاني فهو العرف والتقاليد المجتمعية
فقطاع كبير من فقهاء المسلمين يحرمون الغناء والموسيقى ويصفونها بمزامير الشيطان، ومن تلك الأحكام تولد العرف الذي يرى أن الفن لهوا ولعبا يجب اجتنابه، فهو مضيعة للدين والوقت، ولا يمكن اتخاذه سبيلا للحياة، ومن تهاون من هذا المجتمع جعله على الأكثر وسيلة للتسلية لا يجب بأي حال أن تشغل حيزا كبيرا من حياة لفرد.
تلك الأفكار هي التي شكلت عقولا ترفض الجمع بين تلاوة القرآن والغناء، ليس في وقتنا الحالي فحسب بل على مر العصور، وإن كانت أشد وطأة في وقتنا الحالي، ولعل ذلك يرجع إلى الأفكار المتشددة التي تسربت لمجتمعنا في الفترة الأخيرة ودخول المجتمع المصري مرحلة جديدة من الانفتاح على ثقافات لم يكن قد احتك بها من قبل.
ولكن دعنا من البحث حول مسببات السؤال، ولنبحث أكثر في إمكانية الجمع بين تلاوة القرآن وغناء الكلام البشري.
هل من الممكن بالفعل الجمع بينهما، وما هو الأساس الذي يمكن أن نستند إليه في فكرة الجمع؟؟
الإجابة بكل بساطة نعم، يمكن الجمع بينهما، وأساس هذا الجمع هو حسن الصوت، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) أحب تلاوة القرآن من عبد الله بن مسعود لحسن صوته، وأحب من بلال بن رباح الأذان لذات السبب، وقد يسألني البعض، لا زلنا داخل دائرة الكلام المقدس ولم نخرج عنه إلى الكلام البشري، وفي الحقيقة فإن الغرض من هذا المثال إنما كان لتوضيح قيمة حسن الصوت، فإن كان لا فرق بين من امتلك موهبة حسن الصوت ومن لم يمتلكها لما أحب الرسول التلاوة والأذان من البعض دون البعض وسيكون المرجع الأول في التقدير هو قدسية كلام الله تعالى وحينها لم يكن ليصلنا التفضيل المشار إليه.
ومن هنا ننتقل للكلام البشري: عرف العرب الشعر من قديم الأزل قبل الإسلام وبعده ولم ينكره الرسول عليهم بل أثنى (صلى الله عليه وسلم) على شعر حسان بن ثابت وكان يدعو له في رده على المشركين من القبائل الأخرى، وهنا نسأل: ما العلة من تحريم التغني بالشعر إذا؟
بل نبتعد بالتساؤل أكثر: أيهما أفضل، أن يلقى هذا الشعر بصوت حسن أم أن يقرأ كما تقرأ الكتب؟؟
لا شك أن الكلمات تلعب دوراً كبيرا عند الفقهاء في مسألة الغناء، فما دعى منها للفسق والفجور حرموه قطعا وما خلى منها من ذلك تهاونوا فيه على مضض مستندين لحديث الجاريتين اللتين أنكر عليهما أبو بكر الصديق غنائهما.
وعلى أشد الظروف، فالمسألة خلافية، من أراد أن يحرم على نفسه الغناء والموسيقى(التي وقع فيها ذات الخلاف) فليس له أن يفرض ذلك على المجتمع بأسره، إن كان يؤمن أن الله سيحاسب الجميع بأعمالهم وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
وبالحديث عن الأفكار الدينية التي أنتجت تلك التوجهات، نكون قد اقتحمنا غمار الأعراف والعادات التي توارثناها دون دراية أو تفكر، فقد سقاها جيل من العلماء والمتدينين الذين لم يميلوا للغناء والموسيقى للعامة من الناس الذين أضحوا يرددون عبارات التكفير والفسق رامين بها كل من مالت نفسه للفن، فاستحسنوا التغني بكلام الله تعالى وانكروا التغني بالشعر دون علم أو مرجع عقلي.
ومن هنا أصبحت فكرة الجمع بين التلاوة والغناء فكرة غريبة منكرة، هي أول ما يتحرك داخل هؤلاءالذين لا يتأثرون بالفن بقدر ما تحركهم الأفكار التي لا يعلمون لها أساسا، فإن تأثر بطبيعته وبفطرته التي فطره الله عليها استعاذ واستغفر وتذكر فقط أن أمامه حربا بات لزاما عليه أن يخوضها ليكون ناهيا عن منكر لا يعلم عن علة إنكاره شيئا، هو فقط توارث ذلك.
ولكن، لماذا أصبح هذا التساؤل أشد وطأة عن ذي قبل؟؟
في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، شهدت مصر مواهب فذة أتقنت فنون التلاوة والغناء والإنشاد، كالشيخ علي محمود الذي كان قارئا وموشحا ومطربا يغني بتخت موسيقي كامل، وكذلك الشيخ محمد رفعت الذي سجلت له اسطوانات غناء في مطلع القرن العشرين والشيخ طه الفشني والشيخ محمد الفيومي والشيخ عبد السميع بيومي والشيخ محمد حسن النادي والشيخ محمد عمران وغيرهم.
بل إن معظم ملحني ومطربي تلك الحقبة قد خرجوا من عباءة المشيخة، فها هو الشيخ زكريا أحمد، الذي بدأ حياته مقرئاً ثم موشحا في بطانة الشيخ إسماعيل سكر وبطانة الشيخ علي محمود ثم انتقل إلى طريق الفن الدنيوي وتميز به بل أحدث به تطورات ارتقت بموسيقانا كلها، وكذلك المطرب والملحن أحمد عبد القادر الذي بدأ حياته الفنية بالغناء وهو ابن 6 سنوات ورغم ذلك عين قارئا ومبتهلا ومؤذنا بمسجد الحسين، حتى أم كلثوم فقد بدأت حياتها بقراءة القرآن والتواشيح الدينية ومن تلك العباءة خرجت إلى عالم الفن الدنيوي فأبهرت القاصي والداني وباتت حديث الناس، حتى أنها إلي وقت قريب من وفاتها كان كارت التعريف الشخصي بها لا زال مكتوبا به: أم كلثوم إبراهيم قارئة السيرة النبوية.
في الحقيقة أنا لا أنكر الانحدار الفني الذي وصلنا له، وكونه سببا في تفاقم الأزمة وابتعاد السبيلين عن بعضهما، فما كان عليه الفن في مطلع القرن العشرين اختلف كثيرا عما هو عليه الآن، ولعل ذلك يرجع إلى ثراء تلك الفترة بالشعراء والأدباء والمفكرين الذين أنتجوا كلاما مهذبا بليغا لم يأنفه الناس ولم يستنكروا على صييتة هذا العصر تغنيهم به، ولا عجب، فتلك فترة أخرجت لنا شوقي ورامي وبيرم والشناوي والمانسترلي وحسن صبحي وغيرهم وما كتبوه شاهدا عليهم، أما في وقتنا هذا فقد خرج علينا عامة من الناس لا يعرفون أدبا ولا فنا ولا ثقافة، يكتبون بأمزجة خربة وعقول مجوفة خاوية فأنتجوا كما هائلا من السفه تحت مسمى الشعر الغنائي، وبحلول العقد الأخير ظهرت المهرجانات الشعبية بكلمات سوقية يكتبها كل من هب ودب وبات فنا معترفا به، وانا في الحقيقة لا أنكر على صاحب فن فنه أيا كان، ولكني في معرض التفرقة أبرز أهم ملامح تلك الفلسفة التي جعلت الفجوة بين المطرب (الصييت) والقاريء فجوة متسعة متباعدة الأطراف، وبالتالي بات لكل منهما طريق زاد من حدة تساؤل البعض كيف يمكن الجمع بين التلاوة والغناء؟
والآن دعني أنا أسألك:
ما المشكلة من أن يتغنى القاريء بكلام مهذب لطيف عن الحب والحرية ومكارم الأخلاق في ظل الانحدار الفني الذي نشهده ؟؟

دمتم في سعادة وسرور.

اقرأ أيضا

سالمونيلا .. كيف تصنع فنًا وقحًا بضمير مرتاح؟

إقرأ أيضا
عصام الشماع

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
13
أحزنني
0
أعجبني
3
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان