تجربة أم كلثوم في مجال التلحين.. من قصة ثومة “كوكب الشرق”(31)
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة الحادية والثلاثين من قصة كوكب الشرق ودرة القرن العشرين الآنسة أم كلثوم إبراهيم، ولازلنا ندور في فلك تفاصيل تلك الموهبة الجبارة، لذلك سنكمل الحديث عن موهبة أم كلثوم، وبعدها نتحدث عن تجربة أم كلثوم في مجال التلحين.
أم كلثوم موهبة فريدة من نوعها:
لم تكن أم كلثوم تبذل جهدا أو تضغط على أحبالها الصوتية أو تعذب نفسها ليخرج الغناء منها بهذه العذوبة، ولم تكن تستعرض عضلاتها في الغناء كما يقولون، فقط كانت تستخدم إمكانياتها الطبيعية التي جبلها الله عليها، صحيح قد يبدو الغناء صعبا بل مستحيلا في بعض الأحيان، لاسيما في بعض القطع القديمة التي سجلتها على اسطوانات في فترة الثلاثينيات، أو حين تهيم بين الألحان فترتجل من إلهامها الخاص أو تفرد على اللحن كما في وصلة أتعجل العمر ابتغاء لقائها ووصلة مقادير من جفنيك حولن حاليا ووصلة يا قلبي بكرة السفر وتغيب عن الأوطان، إلا أن ذلك كان أمرا عاديا وسهلا بالنسبة لأم كلثوم.
إقرأ أيضًا…رحلة إسلام من “بكرة جاي” إلى التوحيد والنور والشيخ صلاح
معروف بين الموسيقيين أن لكل مطرب أو مطربة نقطة قوة في صوته عادة ما يتجه الملحنون إلى العمل عليها لتسخير اللحن في خدمة تلك النقطة لإظهار أجمل ما عند المطرب أو المطربة، أما أم كلثوم فصوتها كله كان نقاط قوة، كان صوتا قادرا في كل تفاصيله، كانت تصرخ بالجواب لتصل به إلى قمم الطرب، وتهبط بالقرار فتشعرك وكأن فقيها يقرأ القرآن الكريم، ولعل ذلك كان السبب في سهولة تنقلها بين النغمات الموسيقية المختلفة، غير عابئة بفكرة المساحات الصوتية، كذلك كان سببا في جمال قفلاتها في نهاية الجملة الغنائية، فمن الأشياء التي شغلت بال الكثير من الموسيقيين اقتدار أم كلثوم وتمكنها في حبك القفلة بهذا الشكل العجيب، حتى أن موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب تكلم عن موضوع القفلة في حديث له فقال: لم تضع أم كلثوم قفلة واحدة في حياتها، كانت دائما تفاجيء الجمهور بقفلة قوية تشبه الجول عند لاعب الكرة.
أم كلثوم والارتجال المتجدد:
أمتلكت أم كلثوم صوتا مطواعا شبهه البعض بقطعة العجين الطيعة في يدها تشكلها كما تشاء، وتتنقل بها وتطورها مع كل تكرار، والحقيقة أن الحديث عن ارتجال أم كلثوم وتحكمها في الانتقال بين المقامات يحتاج إلى حلقات كثيرة ولكن يمكن أن نختصر الحديث عنه بضرب المثل بمونولوج الأولة في الغرام، وهذا المونولوج من ألحان الشيخ زكريا أحمد الخالدة، وهو لحن به الكثير والكثير من مساحات الارتجال والتفاريد، وقد غنته أم كلثوم مرات عديدة وصلنا منها خمس وصلات، وتستطيع عزيزي القاريء أن ترجع للأرشيف وتستمع للوصلات الخمس، وستكتشف أن أم كلثوم قد غنت كل مرة من المرات الخمس بأداء وطريقة مختلفة، تبدع في التصرف والارتجال والتفريد حد العجب، لاسيما حين تقول من يوم ما سافر حبيبي وأنا بداوي جروحي، وحين تقول وأقول يا عين اسعفيني وبالدمع جودي، وحين تقول حطيت على القلب إيدي وأنا بودع وحيدي، الغريب في الأمر والمبهر في الوقت نفسه أن أم كلثوم في كل مرة كانت ترتجل أداءا جديدا ولكنها تعي وتفهم ما تفعل فكانت تعود لمسار اللحن في نهاية كل كوبليه بسهولة دون أن تشعر المستمع بأي اختلاف، هي فقط تأخذك معها في رحلة طويلة من الأنغام المشبعة والمطربة لتحط بك في النهاية بكل يسر على غصن اللحن الذي ألفه الشيخ زكريا ولتكمل ما رسمه لها، بل وصل الأمر إلى أنها حتى في الجمل الملحنة كانت تغير طريقة غنائها وتجدده لتعرب في كلمة وحين تعيدها تترك العربة أو تنقلها لموضع آخر، ففي كل مرة غنت فيها الأولة في الغرام كانت تغني جمل المونولوج الأولى”الأولة في الغرام والحب شبكوني، والتانية بالامتثال والصبر أمروني، والتالتة من غير ميعاد راحوا وفاتوني، بطريقة مختلفة على الرغم من أن تلك الجمل هي جمل ملحنة، إلا أن أم كلثوم كانت تأبى إلا أن تبرز شخصيتها الفنية العظيمة ولو في جمل ملحنة ذات بداية ونهاية معروفة، وتلك ميزة عظيمة اشتهرت بها أم كلثوم وتحدث عنها كثير من الموسيقيين، وأذكر برنامج غواص في بحر النغم للمرحوم عمار الشريعي وهو يتحدث عن أغنية فاكر لما كنت جنبي وبالتحديد عن جملة والموجة تجري والموجة عايزة تطولها تضمها وتشتكي حالها من بعد ما طال السفر، والتي كررتها أم كلثوم في تسجيل الاسطوانة قرابة العشر مرات وكانت تبتكر وتجدد في الأداء في كل مرة، ولك أن تتخيل عزيزي القاريء أن يتحدث موسيقي كبير كالمرحوم عمار الشريعي عن مسألة التكرار الذي يتجدد في كل مرة ويفرد لها مع الوصلة حلقة مستقلة.
أم كلثوم وحفاظها على الطابع الشرقي:
عاشت أم كلثوم حياتها كفنانة محافظة على الطابع الشرقي للأغنية العربية، ولعل ذلك أحد الفروق الواضحة بين أم كلثوم وغيرها من المطربين الكبار الذين مالوا إلى التغريب وإدخال العناصر التي لا علاقة لها بالموسيقى الشرقية على أغانيهم، فالأغنية الشرقية لها طابع خاص يقوم على إبراز مظاهر الارتجال الفني أو التصرف والإعادة مع التصرف، وهذا ما ميز كوكب الشرق أم كلثوم، ونستطيع ان نقول أن أم كلثوم مثلت الحصن الأخير لطابع الأغنية العربية ولكن لن أنسى في هذا المقام أن أذكر فضل المطرب الكبير المرحوم صالح عبد الحي الذي ظل طوال حياته محافظا هو الآخر وحارسا أمينا على طابع موسيقانا الشرقية.
أم كلثوم وتجربتها مع التلحين:
خاضت أم كلثوم تجربة التلحين مرتين، المرة الأولى كانت سنة 1928م حين لحنت طقطوقة على عيني الهجر ده مني وهي من تأليف المرحوم أحمد رامي وقد لحنتها أم كلثوم على مقام الراست وسجلتها على اسطوانة جرامافون، والمرة الثانية كانت سنة 1936م حين لحنت مونولوج يا نسيم الفجر وهو أيضا من كلمات المرحوم أحمد رامي وقد لحنته أم كلثوم على مقام الحجاز كار، وسجلته على اسطوانة أوديون، وتوقفت أم كلثوم بعد ذلك عن مسألة التلحين إيمانا منها بفكرة التخصص، فأم كلثوم كانت مطربة متخصصة ولكنها لم تكن ملحنة متخصصة، صحيح كانت ترتجل بطريقة عجيبة، إلا أن فكرة رسم اللحن ببدايته ونهايته لها حسابات أخرى، حتى انها كانت تقول إدي العيش لخبازه، جدير بالذكر أن القطعين من القطع المحببة جدا لقلبي والعزيزة على نفسى وأرى تاثر أم كلثوم فيهما بأسلوب المرحوم محمد القصبجي مع بعض التفصيل، ففي القطعة الأولى يبدو واضحا تأثر أم كلثوم بالطريقة القديمة لألحان المرحوم محمد القصبجي لها، وإن شعرت مع الموسيقى بطريقة المرحوم داوود حسني في التلحين، صحيح كان تعاون داوود حسني معها بعد تلك التجربة بثلاث سنوات تقريبا إلا أن أم كلثوم كانت تستمع لألحانه قبل أن يتعاونا معا وهو أمر معروف عن أم كلثوم، فقد كانت تستمع لألحان الملحنين قبل أن تتعاون معهم، وفي القطعة الثانية “يا نسيم الفجر” يبدو تأثرها بالمرحوم محمد القصبجي في تلحين المونولوجات، علاوة على تأثرها كذلك بالشيخ زكريا أحمد لاسيما وأن أم كلثوم في هذا الوقت كانت قد قضت خمس سنوات برفقة الشيخ زكريا أحمد كملحن لها، وربما كان هذا الرأي في القطعتين ردا مني على بعض النقاد الذين اعتبروا أن أم كلثوم قد فشلت في تجربة التلحين، وهي نظرة مجافية للحقيقة والواقع تماما.
وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال