همتك نعدل الكفة
422   مشاهدة  

تحية سريعة إلى صاحب “هندسة العالم”

محمد زهران


هذا المقال ليس أكثر من تحية سريعة لموهبة خطفها الموت مبكرا، فالقاص والمسرحي محمد عبدالمنعم زهران الذي توفي في مارس الماضي عن عمر يناهز الخمسين عاما، كان يبشر بما هو أكثر، رغم أن ما حققه كثير، ومن بينها عدد من الجوائز كجائزة الشارقة للإبداع وجائزة سعاد الصباح وجائزة يوسف إدريس للقصة القصيرة، مخلفا وراءه عدد من المجموعات القصصية والمسرحيات وقصص الأطفال، إلا أني أشعر بالأسف؛ لأني لم أعرف باسمه وبكتابته اللافتة إلا عبر نبأ موته، وهو شعور سبقني إلى التعبير عنه بصدق كاتبنا الكبير عزت القمحاوي، صاحب الضمير اليقظ، عزائي أن الإرث الأدبي لا يموت بموت صاحبه.

هندسة العالم

ينشغل زهران في مجموعته ” هندسة العالم بمفهوم الخفة والثقل، أو كيف يذوب ذلك الثقل من خلال الرهافة وتعديل زاوية النظر. ففيما تبدأ قصته ” الأولى” الفيلة” بتوقع بطلها عبر الحدس أن بضعة آلاف من الفيلة بما يمثله حجمها كمرادف للثقل، قادمة لتهاجم وتدمر كل شيء، ويبني قصته على هذا التوقع المخيف، الذي يشبه نذير القيامة، فنعيش معه عبر سرد متقن باعث على التشويق ومنسوج برهافة لغوية، شعور التوتر والذعر بل والترقب عما إذا كان النذير حقيقيا، لكن ما أن تتحقق النبوءة المرتقبة، حتى يذيب زهران كل هذا الثقل فيجعله أليفا، ومعيدا للحيوان الذي تحول داخل القصة إلى رمز للرعب والنهاية، إلى كائن وديع كما هو في الأصل، خفته أو ثقله تعتمد في الأساس على أرواح من رأوا الأفيال، بعضهم يشعر بها بحجم جبل وبعضهم لا يشعر به إلا صغيرا وشفافا كسحابة، لكل حسب اختياره في الزمن الذي سبق ظهور الفيلة وما حملته الروح من صفاء أو كدر.

تحكي قصته “أذني كلب” عن امرأة تجاور بطل القصة في العمل والسكن، وتكون مصدرا للإزعاج عبر مراقبتها الدائمة إياه بما يوحي بالتدخل في شؤون حياته، وتتنصت عليه بالقدرة الخارقة للسمع التي يمتلكها أذني كلب، نفوره منها ينتقل إلى القارئ شديد الوطأة، تتبعه في كل مكان تقريبا، نصائحها الخجولة له، تتحول إلى إثبات لحضورها المزعج، لكن هذا الثقل ينزاح بموتها فجأة، رغم أنها كانت قوية” ككلبة ناضجة”، ليدرك بافتقادها كنه حقيقتها: كانت حارسة أمينة مخلصة كشأن الكلاب، وبغيابها يفتقد ذلك الشعور بالحماية أو بالمرساة الثقيلة التي كانت تحميه، فيتحول تدريجيا لا إلى رجل فقد كلبه الأمين، بل إلى كلب فقد صاحبه.

محمد زهران في توقيع كتاب هندسة العالم
محمد زهران في توقيع كتاب هندسة العالم

تلك التحولات الذكية، الشاعرية تمتد على مدار المجموعة كلها، ومن بينها قصة “هندسة العالم” التي تعيد إحياء قصة الخضر، لكن تلك المرة عبر مفهوم جديد يناقش ضرورة الشر من أجل تحقيق اتزان للعالم، وعبر آليات جديدة نسبيا، فالخضر هنا امرأة توصم بأنها حسودة في حارة شعبية، يتجنبها الجميع، عدا بطل القصة نفسه، الذي تؤهله القصة رويدا رويدا ليرث مكانها الملعون على العتبة التي يحقق بها شر النظرة الحسود، لتتواصل هندسة العالم، ضاما المتخيل الشعبي كأثر العين، جنبا إلى جنب مع الواقع العقلاني ليخلخله ويتمكن من فهمه، فصباح التي يقدمها إلينا الراوي وأحد الشخوص الفاعلة في القصة في الآن نفسه، هي محض امرأة شريرة تسوقها الكراهية في واقعنا، لكن في القصة تتحول إلى شخص مدفوع دفعا ليمارس هذا الشر، من قبل قوى أعلى منها تعاقبها إن لم تفعل، وهي ليست قوى شيطانية بل سماوية حتى لو كان لها لمسة الشيطان، عن طريق تلك اللمسة التي ترتكب شرا قد يمنع شرا أكبر تعاد هندسة العالم.

في واحدة من القصص البديعة في المجموعة “تستلقي.. لينام”، ينقلب مفهوم الخفة والثقل، عندما يتعلق ذلك الثقل بالضمير، فتبدو محاولات بطل القصة لإيجاد الخفة التي تمكنه من النوم ليس إلا بحثا عن هرب من وطأة الضمير، وتكيف يهرب به من حقيقة مواصلته ارتكابه للشر.

يقول زهران، في حوار منشور له بالأهرام في 19 يوليو 2020 عن نصيحة صديقه الناقد الراحل عماد الحيني «إذا لم تكن فارقًا، وإذا لم تكن كتابتك تضيف إلى الكتابات الفريدة في العالم، فمن الأفضل أن تتوقف»، لقد أسهم فعلا في رفع سقف تطلعاتي في البدايات، لا أدعي أنني وصلت إلى هذا الحد ، ولكن العثور على صوتي وعالمي الخاص في الكتابة كان إنجازًا عظيمًا بالنسبة إلي.

إقرأ أيضا
حارة اليهود في مصر

تمكن زهران من ذلك الصوت في مجموعة هندسة العالم، أما انحيازه الواضح للقصة القصيرة، رغم عدم شعبيتها تخبرنا عن أديب لم تشغله سوى الكتابة الجيدة وتطوير أداوته، ولا أملك ما أقوله أمام تلك الخسارة سوى الدعوة لقراءته.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (1)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان