همتك نعدل الكفة
567   مشاهدة  

تذكرة ماتنينيه .. تروفو المولود عملاقاً

تروفو


سنة ١٩٥٩ عرضت دور العرض السينمائي بفرنسا فيلم Les Quatre Cents Coups وترجمته بالإنجليزية  The 400 Blows و هو العمل الأول للمخرج فرانسوا تروفو François Truffaut الذي حصل بإبداعه في تنفيذ الفيلم على جائزة الإخراج من مهرجان كان و هو تقدير عظيم و مستحق لمخرج إذا جاز لي أن أسترشد بالسكان الأصليين لأمريكا الشمالية لأختار له أسماً فبالتأكيد سيكون ( المولود عملاقاً ) لأننا عندما نقرأ مسبقاً قبل مشاهدة الفيلم عن موضوعه فربما نتخيل أننا سنتورط مع مأساة مليودرامية لا تخلو من الفجاجة لكننا فور أن نجلس أمام الشاشات سنستغرق في تفاصيل إنسانية مغلفة بشاعرية جذابة ستقودنا للبحث عن أفلام تروفو الأخرى لتدهشنا مثلما فعلت قصيدته السينمائية الأولى .

تروفو

الفيلم  يحكي قصة المراهق المتمرد شديد الذكاء أنطوان دونيل الذي يعيش مع أم جميلة لكنها تعيسة و غير مسؤولة و أب أحمق في ظروف إقتصادية صعبة بشقة ضيقة غاية في التواضع و يتعلم في مدرسة على يد ساروبا مدرس الفصل الصدامي فظ الطباع فيبحث أنطوان مع زميل دراسته و صديقه الوحيد مولييه عن حياة أخرى خارج المدرسة يتمتعان فيها بالتسكع في شوارع باريس و مشاهدة الأفلام بالسينمات و ليتجنب العقاب بسبب غيابه عن المدرسة يدعي أنطوان وفاة أمه ، تُكتشف كذبته فيصفعه أبيه على وجهه أمام زملائه بالفصل ليشعر أنطوان بالإنكسار و يمتنع عن العودة بعد إنتهاء اليوم الدراسي إلى بيته و يساعده صديقه مولييه على المبيت في مطبعة قديمة .

تروفو

تنتبه الأم لهروب أنطوان من المنزل فتحاول التقرب إليه و تعده بمكافأة ألف فرنك إذا كان من بين أفضل خمسة طلاب في الإختبار القادم ، فيستعير أنطوان فقرة من مؤلفات أديبه المفضل الروائي بلزاك و يكتبها كما هي في موضوع تعبير و كأنها من خياله في وصف جده لكن مدرس الفصل ساروبا عند التقييم يسخر منه و يوبخه أمام باقي الطلاب و يتهمه بسرقة إبداع بلزاك ثم يطرده من الفصل و يأمر تلميذ آخر بإصطحابه إلى مدير المدرسة ليعاقبه فيهرب أنطوان و يقرر هجر المدرسة التي يكرهها و كذلك المنزل ليتجنب التوبيخ من والديه فيستضيفه صديقه الوفي مولييه في بيته الذي يجمعه مع أم مدمنة للخمر و أب لا يعود إلا لتناول الطعام أو للنوم فيقضيان معاً أجمل أوقاتهما في غرفة مولييه و أيضاً يسرق مولييه نقود أمه ليستمران في اللهو بالشوارع و مشاهدة الأفلام السينمائية .

تروفو

يدرك أنطوان حاجته إلى النقود ليحقق لنفسه الإستقلال الكامل عن أسرته فيفكر مع مولييه في طريقة لتوفير الأموال و يستقر على سرقة آلة كاتبة من مقر عمل أبيه ، يتسلل إلى هناك ، يستولى على الآلة ثقيلة الوزن ثم يتبادل مع مولييه حملها في شوارع المدينة لكنهما يفشلان في بيعها و يضطر أنطوان لإعادتها إلى مكانها غير أن حارس المكتب يقبض عليه و يتصل بأبيه الذي يأتي غاضباً و يقود أنطوان بقسوة إلى مقر البوليس بحجة عدم قدرته على تقويمه ولأن المحقق يمتلك قلب أب فإنه ينبه والد أنطوان بأن إصراره على الشكوى سيعني تنازله هو و أمه عن حق رعايته لصالح دار رعاية الأطفال المشردين إلا أن الأب دونيل لا يتراجع عن موقفه مدعياً إن خطوته القاسية تلك ستضمن لإبنه الإصلاح و تعلم حرفة يتكسب منها في المستقبل و يتم تحرير محضر ضبط لأنطوان بتهمتي التشرد و السرقة و يحجز حتى طلوع الصباح في قفص يجمعه مع لص و عاهرتين .
في الطريق إلى المحكمة يستقل أنطوان مع رفقاء الإحتجاز سيارة الترحيلات فتنهمر دموعه في صمت و هو يرى من خلف قضبان شباك العربة شوارع المدينة التي كان حتى أمس يجوبها في مرح .

تروفو

تذهب الأم إلى المحكمة و هي تمتلك نفس حماقة الأب و نكتشف من حديثها مع القاضي للمرة الأولى إن زوجها ليس الوالد الحقيقي لأنطوان .

في مقر عقابه يعيش أنطوان حياة مختلفة يعرف من بداية تورطه فيها أن مخالفة نظامها يعني التعرض الفوري للعقاب البدني المهين و المؤلم و يكتشف إن الهروب منها ممكن لكن الهارب حتماً يعود ذليلاً  معاقباً بالعزل و أشياء أخرى .

يأتي موعد الزيارة الإعتيادية لأهالي المحتجزين فيفرح أنطوان و هو يرى من مكان وقوفه بين باقي زملائه خلف زجاج المبنى صديقه مولييه يسبق الحضور بحماس ليزوره لكنهم يمنعونه من الدخول لصغر سنه فيترك مولييه هديته و يقود دراجته في طريق العودة الطويل إلى المدينة و يصاب أنطوان بخيبة أمل لا تخففها زيارة أمه التي لم يكن دافعها إلى زيارته إلا توبيخه و لا تبدي أية مشاعر تعاطف أو حنين إلى إبنها في معاناته فيبدو أنطوان في مواجهتها بملامح خالية من الإحساس و بنظرات حادة .

يخوض أنطوان مع زملاء محبسه مباراة ترفيهية لكرة القدم فيغافل المشرف و يهرب  من أسفل السياج المحاوط للملعب إلى الغابة الواسعة و يحاول المشرف اللحاق به لكنه ليس بذكاء أنطوان لذا يخدعه و يختفي أسفل جسر ثم يغير وجهته و يركض بدون توقف حتى يصل إلى شاطئ المحيط الذي يرى مياهه للمرة الأولى منذ ميلاده فيهرول إليه أسفل سماء ملبدة بغيوم الشتاء .

تكتب كلمة النهاية لنبدأ الحديث عن سيناريو الفيلم الذي كتبه تروفو بمشاركة من مارسيل موسيي Marcel Mouss بلغة سينمائية غاية في البراعة سردت أحداث محبوكة في تسلسل متصاعد يخوضها شخصيات لهم بناء إجتماعي و نفسي قوي و صادق بملامح مختلفة لكل شخصية فبطل الفيلم أنطوان و صديقه مولييه من نفس السن ، من مدينة واحدة ، يجلسان على نفس الديسك المدرسي ، كلاهما وحيد أبويه ، يعيش كل منهما في بيته حياة محدودة الرعاية خالية من الرقابة تجمعهما صداقة و إهتمامات مشتركة و سلوك متشابه لكن لكل منهما ملامح شخصية تختلف عن الآخر فأنطوان متمرد ، متهور و مندفع ، عند سؤاله عن سبب تغيبه عن المدرسة إدعى وفاة أمه رغم ذكائه الذي جعله يدرك إن كذبته ستكشف بينما مولييه منطلق و ليس بمتمرد ، يجيد التفكير و يمتلك مهارات القيادة فهو من دبر شؤون أنطوان عندما قرر ترك المنزل و هو من زور خطاباً و نجح في تبرير غيابه ، كذك رفض التسلل للبمنى لسرقة الآلة الكاتبة أو لإرجعاها ليس لأنه ندلاً بل لأنه يفكر و هكذا يصنع الإختلاف بين الشخصيات المتشابهة تنوعاً درامياً يساهم في جودة العمل و بالتالي في جذب المشاهد .

تروفو

براعة السيناريو كذلك في التعبير المقتصد عن الشخصيات فكلمات قليلة كتبها أنطوان على حائط الفصل وقت حرمانه من النزول إلى الفسحة كشفت عن براعته في التعبير عن نفسه بالكتابة و رد فعل المدرس عند رؤيتها أوضحت لنا عنفه و إفتقاده للأسلوب التربوي و في مشهد واحد في بيته نعلم من تفاصيل بسيطة أن أنطوان يعتمد على نفسه و من لقطات في نفس المشهد تظهر الأم للمرة الأولى عائدة من عملها فنتعرف على مزاجها العصبي و جفاف مشاعرها تجاه إبنها و لقطة واحدة داخل مشهد رأى فيه أنطوان أمه تقبل رجلاً غريباً في الشارع و عرفت هي لحظتها إن إبنها شاهدها جعلنا نرى بوضوح شخصيتها و نفهم لماذا تغيب عن المنزل و ما الذي يشغلها عن الإهتمام بإبنها ، كذلك مشهد واحد فقط ظهرت فيه أم مولييه كان كافياً لنعرف كل ما نحتاجه عن غياب دورها في حياة إبنها و مشاهد ثلاثة قصيرة للأب لم نكن لنحتاج غيرها لنفهم كيف تربى مولييه ، لو لم يملك كاتبي السيناريو المهارة لهبط الإيقاع كي نعرف تلك المعلومات من خلال مشاهد أكثر و جمل حوار أطول .

الإقتصاد كذلك في جمل الحوار القصيرة المعبرة عن طبيعة الشخصيات و طرق تفكيرها و عن المواقف داخل الأحداث وأيضاً لمعرفة أجزاء مهمة من تاريخ الشخصيات (الباك هيستوري) في غير حشو إنما وفق ما ترتضيه الحبكة وقت سرد الحوار ، فمن جملة واحدة في مكانها المنطقي داخل الدراما صححت أم أنطوان معلومة للقاضي فعرفنا إن الرجل الذي يحمل أنطوان إسمه هو زوج أمه و ليس أبيه و في جلسة العلاج النفسي أطلعنا أنطوان من خلال إجاباته العفوية على أسئلة المعالجة عن تفاصيل من حياته السابقة لأحداث الفيلم و عرفنا لماذا يشعر بعدم حب أمه له و جملة واحدة سمعها أنطوان من مراهق آخر إستعاده الحراس من الهرب  جعلته يخوض مثله التجربة حتى و هو يعرف مسبقاً إن هروبه لن يكون دائماً .

من نقاط القوة كذلك في سيناريو الفيلم منطقية أفعال الشخصيات وفق ما تم زرعه من ملامح لها طوال الأحداث فإذا تعجبنا من تصرف الأب عندما إصطحب إبنه إلى مركز البوليس و كأنه يقود لصاً غريباً و شعرنا إن تقديمه طوال الأحداث السابقه على ذلك المشهد بتصرفات حمقاء لا تكفي لتقنعنا بتلك القسوة إلا أننا عندما نكشتف بعد ذلك بدقائق إنه ليس أبيه سنقتنع .

و إذا دخل والد مولييه الغرفة فجأة فإختبأ أنطوان حتى لا يراه لكن بتسرع كان من الممكن أن يفضح وجوده في المنزل فسنعرف من إهتمام الأب فقط بحماية حصانه الخشبي الموجود بالغرفة لماذا كان مولييه دائماً يملك تلك الثقة بأن لا أحد سيلحظ إستضافته لصديقه .

قدرة تروفو على تحليل السيناريو مكنته من حسن إختيار الممثلين من ناحية الشكل و موهبته في الإخراج جعلته يوجههم إلى أداء صادق و إنفعالات منضبطة و ردود أفعال تناسب الأفعال سبب حدوثها ، فملامح وجه أنطوان في بداية الفيلم عندما ضبطه المدرس يشاهد صورة من مجلة بورنو تختلف عن تعبيراته عندما واجهه نفس المدرس أمام التلاميذ أنفسهم بسطوه على أفكار بلزاك ، و القلق على وجه أنطوان عندما يسرق زجاجة حليب ليتناول العشاء و هو هارب من منزله للمرة الأولى لا يقارن بتوتره و هو يسرق الآلة الكاتبة من مقر عمل أبيه و لا يتشابه إطلاقاً مع جرأة نظراته و هو يستولي على المنبه من حمام السينما كذلك لم تكن إنفعالات المدرس بالفصل تجاه أنطوان أو باقي زملائه إلا صادقة و مناسبة تماماً لشخصيته داخل السيناريو .

إقرأ أيضا
الحشاشين

إختار تروفو الخروج من الأستوديو إلى الشوارع و الأماكن الحقيقية كالمدرسة و دور الرعاية و المنازل و الشركة و المحلات و السينمات لتصوير الفيلم و أنا غير معني بتأريخ تلك المرحلة في السينما الفرنسية أو توصيف المدرسة السينمائية التي صنعها تروفو لكنني مهتم بتوضيح أهمية ما فعل في صنع فيلم صادق بتكوينات بصرية مبهرة غنية بالتفاصيل معبرة بوضوح عن المجتمع و شكل الحياة به في تلك الحقبة غير إنها إختيارات كانت في خدمة الدراما كما كان تكنيكه في الإخراج في خدمة الدراما كذلك ، فهو يضع الكاميرا و يختار أماكن الممثلين أمامها ليس ليستعرض ما يعرفه عن الإخراج في تجربته الأولى و إنما ليجعلنا نستوعب ما تريد الدراما التعبير عنه من جغرافيا المكان و مما تخبئه أو تعلن عنه الشخصيات من مشاعر .

لم تقف المساحات الضيقة في شقة أنطوان و عائلته حائلاً أمام المخرج ليخلق كادرات ذات تكوينات بارعة و لم يتسبب التناقض بين تلك المساحة المخنوقة و مساحات باقي أماكن التصوير الداخلي الواسعة في شقة مولييه أو قاعة المسرح أو دور السينمات أو المطبعة أو الشركة أو دار رعاية الأحداث في أن يختلف تكنيك تروفو في تصوير الفيلم من مشاهد لأخرى و حافظ كذلك على إختياره لهذا التكنيك في  تصوير المشاهد الخارجي رغم إختلاف طبيعة الدراما داخلها بسبب الحركة و المغامرة و الزشخاص الحقيقيين الذين يسيرون في الشوارع و هم لا يعرفون إن هناك فيلماً يتم تصويره .

تصوير الفيلم كان لهنري ديكا Henri Decaë الذي قدم صورة مبهرة لكني أعتقد إن تصميم الإضاءة التي خلقت ذلك الإبهار لم تخدم الدراما في كثير من مشاهد الفيلم و منهم مشاهد الليل الداخلي القليلة بمنزل أنطوان أو مشاهد إحتجازه في قسم البوليس أو في محبسه الإنفرادي بعد تحويله لدار الرعاية و كذلك مشهدي الشركة مقر عمل والد أنطوان عندما ذهب ليسرق ثم ليعيد ما سرقه و أجاد مدير تصوير الفيلم في مشهد سيارة دونيل و عائلته و هم عائدين من السينما في ليل باريس أسفل أمطار سمائها و مشهد سيارة الترحيلات ، و يمكنني التوقف عند حركة الكاميرا للإشادة بعمل مدير تصوير الفيلم خاصة مشهد هروب التلاميذ من الصف الذي كان يقوده مدرس الألعاب في شوارع المدينة و بالتأكيد مشهدي بداية الفيلم و نهايته .

المونتاج  بطبيعة تلك المرحلة كان يعتمد على مزج اللقطات أو الإظلام لتمرير الزمن لكن بغير إفراط و كان في خدمة الدراما بإيقاع منضبط فتركنا نتشبع بتعبيرات وجه الممثلين لنعرف ما يدور بداخلهم و كان ينهي اللقطة عندما لا تكون هناك ضرورة لأن تستمر و قامت بتلك المهمة المونتيرة ماري جوزيف يويت Marie-Josèphe Yoyotte  .

الموسيقى التصويرية للفيلم من إبداع الموسيقي الفرنسي الشهير جان كوستانتان Jean Constantin الذي ساهم مع باقي عناصر الفيلم في محاصرة الميلودراما بأجواء إنسانية .

تبقى تفاصيل تعبر عن قدرة المخرج على صنع عالمه فإختيار ملابس المدرس على سبيل المثال تحكي كل شيئ عن واقعه البائس مهنياً و إنسانياً دون أن يكون هناك داعي لأن ينفرد بزميل له في مساحة ما من الفيلم ليشكو ، تصوير التلاميذ ينسحبون من وراء ظهر مدرس الألعاب و هو يقودهم لممارسة الرياضة في شوارع باريس يوضح أشياء كثيرة يحتاج مخرجين آخرين غير تروفو مشاهد طويلة ليوضحوها لكن تروفو في مشهد بديع عرفنا كيف تسير العملية التعليمة و أخبرنا أن أنطوان ليس وحده الذي يهرب إنما كل زملائه لكن مصير أنطوان إختلف لأنهم بالتأكيد يعيشون بين أسر تهتم بهم وذلك دون أن نحتاج لرؤية ذلك على الإطلاق .

و أخيراً مشهد النهاية التي بدت للبعض متروكة للمشاهدين ليحددوها و هي غير ذلك على الإطلاق  فالذي ينتظر صبي هارب أسفل سماء ملبدة بين محيط واسع عريض و غابة مترامية الأطراف بالتأكيد معروف بدقة .

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
9
أحزنني
0
أعجبني
7
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
3


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (3)
  • من الملاحظة إن كتابات مثل هذه الأفلام كانت تميل إلى الواقعية الشديدة في تصوير المجتمع
    بل تذهب لأكثر من ذلك فهي دائما تعرض صورة أكثر قتامة للمجتمع دون نقطة ضوء واحدة
    فحتى صديقه الذي كان يساعده هو في الحقيقة لم يكن يفيده
    وعموما هذه النوع من الأفلام يصيبني في نهايته بقدر من الاحباط

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان