“ترياق الفاروق” عقار تميز أطباء بيمارستان السلطان قلاوون بصنعه من الحيات
-
إسراء أبوبكر
صحفية استقصائية وباحثة في شؤون الشرق الأوسط، نشأت تحت مظلة "روزاليوسف" وعملت في مجلة "صباح الخير" لسنوات.
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
في معرض تدوينه لرحلته إلى مصر، أفرد الرحالة العثماني أوليا چلبي فصلًا كامًلا في كتابه “سياحت نامه” لترياق الفاروق الذي تميز بيمارستان السلطان قلاوون وقتها بتحضيره، وشفاه من مرض عضال عانى منه أكثر من ربع قرن. كما تحدث عن أطباء البيمارستان الذين شببهم بالمسيح وهو يحيي الموتى، وتطرق إلى كل التفاصيل الخاصة بالعقار الذي وصفه بالفن العظيم، وحرص على مشاهدة جميع خطوات تصنيعه.
حين نتحدث عن أشهر مؤرخي القرن السابع عشر لا بد وأن نذكر أوليا چلبي، الرحالة الذي اعتبر بدأ رحلته بأمر إلهي، وهب له الأربعين عامًا الأخيرة من حياته. روى أساتذتنا من أرباب التاريخ العثماني أن المستشكف العثماني انطلق في رحلاته حول العالم بعد حلم رأي فيه الرسول محمد، ولما همَّ لسانه بطلب الشفاعة منه تعثر وقال “سياحة يا رسول الله”؛ فوقر في صدره أنها إشارة ربانية ليبدأ رحلاته.
عشر مجلدات من سياحت نامه لخصت رحلة مرت بأكثر من 20 دولة داخل وخارج الحدود العثمانية، آخرهم المجلد المخصص لرحلته من مكة إلى مصر والسودان، والتي استقر بها 8 سنوات من 1672م وحتى 1680م. وروت بعض المصادر وفاته بها عام 1682م بعد عودته من رحلة أخيرة إلى إسطنبول؛ إلا أن مكان قبره غير معلوم سواءً في مصر أو إسطنبول.
تناول السموم لاكتساب مناعة
كان أوليا چلبي شخصية تميل إلى الخرافات والأساطير؛ وهو أمر واضح بدايةً من الطريقة التي ترك بها منصبه في بلاط السلطان مراد الرابع، وحتى عشرات القصص الخرافية التي ألحقها بمجلداته. وهو ما دفعنا للشك في قصته حول العقار الأسطوري الذي شفاه من عجز جنسي أصابه لأكثر من ربع قرن؛ لكن البحث أوضح لنا أن ترياق الفاروق ذُكِر قبل قرون من رحلة المستكشف العثماني لمصر.
فقد ذكر الطبيب والفيلسوف الفارسي ابن سينا في كتابه القانون في الطب فوائد عديدة لترياق الفاروق، إضافةً لكونه مضاد قوي للسموم يستخدم في علاج حالات الفُلج (الشلل الصفي)، والجذام، والبرص، وأمراض المعدة والقلب والكبد. كما أشار إلى أنه يقوي الحواس ويحرك الشهوات، في إشارة إلى قدرة الترياق الفاروقي على حل المشكلات الجنسية.
وأورد ابن سينا أن النسخة الأولى والأفضل من الترياق الفاروقي هي ما صنعه الطبيب اليوناني “أندروماخس”، الذي عاش في عهد الإمبراطور الروماني نيرون، وأكد أن النسب التي حددها هي الوحيدة الناجحة لسبب لا يعمله أحد. وعند تتبع تاريخ هذا العقار المبني في أساسه على استخدام الحيات، نجده يصل لترياق أقدم عرفه الفرس في عصور ما قبل الميلاد باسم “مثريديت“. ومنه اشتق اسم “المثريداتية” المصطلح الطبي الذي يطلق على تناول السموم بكمية قليلة غير مؤذية؛ لاكتساب مناعة من السم نفسه.
عالج المؤرخ أوليا چلبي من عجز جنسي أصابه لربع قرن ويهدى سنويًا إلى السلطان العثماني
الترياق الفاروقي الذي اعتبره ابن سينا امتدادًا للترياق المثريداتي، ووصفه للعديد من الأمراض الباطنة والظاهرة، كان الفن العظيم الذي عجز أطباء الدولة العثمانية عن صنعه بالطريقة المصرية، وفقًا لكتاب سياحت نامه مصر.
بعد حديث مطول عن بيمارستان السلطان قلاوون الرابض حتى يومنا هذا في شارع المعز، انتقل أوليا چلبي لطريقة صنع ترياق الفاروق، داخل جناح خاص من المشفى يسمى “الفاروقخانه”. بداية من صيد الحيات المستخدمة في صنعه من بهنسا والفيوم والجبل الأخضر، في شهر يوليو من كل عام.
لم يكن متاحًا للعامة أن يشاهدوا تلك العملية المعقدة المستخدم فيها آلاف الحيات السامة؛ لكن أوليا چلبي استطاع توثيقها بعد حصوله على إذن خاص من ناظر المستشفى بالحضور. لحسن الحظ تميز كاتب سياحت نامه مصر بالدقة الشديدة في كل كتاباته، ولشدة اهتمامه بترياق الفاروق تحديدًا لم يترك تفصيلة دون ذكر.
ثلاثون شخصًا في قسم مغلق من بيمارستان السلطان قلاوون في القرن الـ17، بين حكماء وكتاب وطهاة ومساعدين، لا يختصون بصناعة ترياق الفاروق فقط بل عدة أدوية من 3 أنواع مختلفة من الحيات. وقد ذكر المؤرخ القيمة التقديرية لـ8300 حية تم استخدامهم في تلك الجلسة بـ800 قرش، في زمن كانت تكلفة بيات المريض ليلة في البيمارستان قرشًا.
يصنع الترياق من لحم الحيات المسلوخ عن الجلد دون استخدام الرأس أو الذنب، حيث يوضع بعد غسله في إناء من الصلصال على نار خشب السنط؛ أمَّا باقي أجزاء الحيات تُباع لبلاد الإفرنج لتستخدم أيضًا في صناعة الأدوية. بعد غلي لحم الحيات يفصل رئيس الحكماء الدهن عن اللحم ويخلطه بزيت الزيتون، لعمل خلطة تعالج البرص والجذام والجرب.
الترياق في أساسه قائم على مزج دهن ومرق الحيات مع عدة أدوية أخرى ومسك مستورد مخصوص من المغرب. وقد تناوله أوليا چلبي لأول مرة في تلك الجلسة التي حكى عنها، وأوضح أنه خاف تجرع الشربة التي أكرمه بها الحكماء في بداية الأمر. لكن بعد تناوله لها لاحظ تحسن في حالة العجز الجنسي التي أصابته خلال إحدى رحلاته، التي ذكرها بالتفصيل عام 1646م؛ وهو ما دفعه للعودة في اليوم التالي إلى رئيس الحكماء لطلب المزيد من ترياق الفاروق.
جرت العادة أن الكمية التي تصنع في كل عام مرة من ترياق الفاروق تقسم بشكل معين، حيث يبعث بجزء منها هدايا إلى السلطان العثماني ووالي مصر، وعدة شخصيات دبلوماسية مثل الصدر الأعظم (رئيس وزراء الدولة العثمانية) وشيخ الإسلام وغيرهم.
الكاتب
-
إسراء أبوبكر
صحفية استقصائية وباحثة في شؤون الشرق الأوسط، نشأت تحت مظلة "روزاليوسف" وعملت في مجلة "صباح الخير" لسنوات.
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال