“تغريبة بني حتحوت” لمجيد طوبيا وأسئلة الرواية التاريخية

عندما قرأت مؤخرا الرواية الملحمية الرائعة تغريبة بني حتحوت للكاتب الكبير مجيد طوبيا، الذي رحل عن عالمنا صباح السابع من إبريل، أثيرت في ذهني أسئلة ذات شجون متعلقة بالرواية التاريخية وعلاقة الأدب بهذا النوع، خاصة مع انتشار الرواية التاريخية في السنوات الأخيرة، وتصدرها قوائم الأكثر مبيعا وكذلك تواجدها الدائم في قوائم الجوائز، كأن اتكاء الرواية على التاريخ ضمانة بالجدارة والجودة.

أؤمن أن إنتاج رواية شيء وكون تلك الرواية أدبا هو شيء آخر، حيث لا تكفي المعالجة أو امتلاك حكاية أو حتى إجادة تقنية، فالحرفة أمر هام لكن من أجل إبراز سؤالين أساسين يمتلكهما كل أديب: أسئلة عن الإنسان، وهم لغوي ما يتصارع معه، وهذان السؤالان كحد أدنى يتوافران في تغريبة بني حتحوت وينطلقان إلى آفاق أبعد.

اقرأ أيضًا 
أفلام أكتوبر “2” أبناء الصمت.. في مديح الذين لا نلتفت لهم

فخ الروايات التاريخية التي نقرأها حاليا، هو أنها تقوم على إكليشيهات متكررة لها أثر المخدر الممتع لما نطمئن إليه، حيث يوفر التاريخ المادة، ثم ترسم شخصيات بلا أسئلة، ترسم حنينا لعصر ما، يشبه الأمر اسكتش رسومات أطفال مجهزة مسبقا بالأبيض والأسود، كل ما على الطفل أن يفعله أن يقوم بتلوينها.

ملحمة تغريبة بني حتحوت عبارة من أربع روايات قصيرة نشرت منفصلة، ثم جمعتها الهيئة العامة لقصور الثقافة في مجلدين، تشكل تغريبة المقهورين والمتمردين على ذلك القهر والهاربين منه والآملين في العدل، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا. رواية هي النموذج المضاد لثغاء الرواية التاريخية، على الأقل في أجزائها الثلاثة الأولى.

لا يذهب طوبيا للتاريخ فقط من أجل إعادة إحيائه، بل لإعادة اختراعه عبر تخييل فذ، ليطرح ما يفوق حتى أسئلة عصره، أسئلة الإنسان في كل زمان ومكان، حيث يغترب منجزه عن فعله. من خلال الهم اللغوي الذي يصارعه طوبيا تتشكل لغة فريدة، أدمجت فيها تقنيات السرد الشعبي وحكايات ألف ليلة وليلة وحواديت الشطار، منتجا حكايات داخلية ترتفع من مستوى المحاكاة إلى الإضافة.

أفكر أيضا في معيار رواية تاريخية أخرى هي “الزيني بركات” لجمال الغيطاني التي يحركها أيضا هم لغوي تتشكل عبر الصراع معه  بنية فريدة الرواية، حيث يستوعب الغيطاني طرائق سرد ابن إياس ليعيد إنتاجها ضمن معمار روائي ظل هاجسه الأول، كيف نطرح شكلا روائيا غير مسبوق ومغاير للنمط الغربي الذي ورثنا بنيته ومعماره، طارحا أسئلته عن الإنسان المحاصر بين قهر العسس وأعين البصاصين.

إقرأ أيضا

أسامة أبو العطا يبهرني ويجعلني أتراجع عن موقفي!

تتأرجح الأجزاء الأربعة لتغريبة بني حتحوت بين ذروة الابتكار والتخييل الروائي وبين فخ إعادة تلوين الأحداث المرسومة سلفا، خاصة في النصف الثاني من جزئها الرابع، حيث تختفي قصص عائلة حتحوت ونجد أنفسنا أمام سرد لحكاية عرابي كما قرأناها في كتب التاريخ في الثانوية العامة ربما بوصفه ذروة المقاومة والأمل والهزيمة، لكنه يفتقر لعملية الفحص النفسي وتحليل الشخصيات بعين جديدة كتلك التي وجدناها عندما رسم طوبيا بتعاطف الروائي ونقمته بعض قادة الحملة الفرنسية ومحمد علي وأسرته من الخديوي عباس حلمي إلى الخديوي توفيق مرورا بالخديوي سعيد وإسماعيل، حكايات السادة لم تكن الخط الأساسي للعمل ، بل وظفوا  بأفكارهم أو نزواتهم للتحديث لتعميق هذا الخط الذي يقوم على فكرة أن كل تقدم حقيقي حظت به مصر قام على تضحيات المصريين اللذين كتب عليهم الحرمان من منجزهم، متتبعا في ذلك كله نبضة المقاومة عبر سلسال الجد حتحوت التي لا تموت أبدا ضد سيل متعاقب من فساد الحكام وقهرهم. ما يجعل الأجزاء الثلاثة الأولى تحفة روائية هو خلطة السحر، بحكاية التغريبة، الميلاد العجائبي والنذر، حيث تسير الخرافة والواقعة الرسمية كما رواها الناس جنبا إلى جنب.

يتجاوز طوبيا هنا مسألة التأريخ لمصر في الأجزاء الثلاثة الأولى، فتمتلك روايته بصيرة أكبر بالإنسان في كل زمان ومكان.