تمويل الانتخابات الأمريكية.. “البنادق تصوت أيضًا”
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
ثمة علاقة وثيقة بين تمويل الانتخابات الأمريكية وشركات السلاح، تلك العلاقة التي تعكس أولوياتٍ تضع الربح على حساب السلامة العامة، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي الأمريكي ويثير تساؤلات حول مستقبل قوانين حيازة الأسلحة في البلاد.
الداخل الأمريكي وأزمة حيازة السلاح
تظل قضية حيازة الأسلحة واحدة من أكثر القضايا جدلًا في المجتمع الأمريكي على مدار عقود، وبات ملفها حاضرًا في الانتخابات الأمريكية، خاصةً في ظل التقديرات التي تشير إلى أن أكثر من 44 ألف أمريكي يفقدون حياتهم سنويًا جراء إطلاق النار، بينما يُسجل أكثر من 100 ألف إصابة نتيجة حوادث إطلاق نار في كل عام.
مع تزايد حوادث إطلاق النار المأساوية، كثف الكونغرس الأمريكي جهوده لدرء هذا التهديد، حيث شرع في سن تشريعات تهدف إلى تنظيم حيازة الأسلحة، من بين هذه التشريعات قانون الأسلحة النارية الوطني في ثلاثينيات القرن الماضي، الذي جاء لمواجهة انتشار مدفع رشاش طومسون، كما أُقر قانون برادلي عام 1993 للتحقق من سوابق مشتري الأسلحة.
وفقًا لبعض التقديرات، أسهم حظر الأسلحة الهجومية الفيدرالي، الذي دخل حيز التنفيذ في عام 1994 واستمر لمدة عشر سنوات، في خفض الاعتماد على هذه الأسلحة في الجرائم بنسبة تتراوح بين 17% و72%. كما أظهر الحظر تأثيره الإيجابي من خلال تقليص عدد الوفيات الناتجة عن حوادث إطلاق النار الجماعي إلى أقل من 70%، ومع ذلك، شهدت هذه الأرقام ارتفاعًا كبيرًا بعد انتهاء الحظر، حيث زادت بنسبة 347% خلال العقد التالي.
في هذا الإطار، تبرز أصابع الاتهام نحو جماعات الضغط السياسية التي تدعم حمل السلاح، المعروفة بـ “لوبي السلاح”، والذي يُعتبر من أقدم وأقوى جماعات الضغط في السياسة الأمريكية، وقد ساهمت هذه الجماعات في عرقلة الجهود الفيدرالية الهادفة إلى فرض السيطرة على الأسلحة، تحت ذريعة حماية الحقوق المدنية والدفاع عن التعديل الثاني للدستور الأمريكي، الذي يكفل حق المواطنين في الاحتفاظ بالأسلحة وحملها.
“كل ما تحتاج معرفته” تمويل الانتخابات الأمريكية والرابطة الوطنية للبنادق
تشير مجموعة من الوثائق والتحقيقات إلى أن الجماعات الرئيسية المؤيدة للسيطرة على الأسلحة النارية، وعلى رأسها الرابطة الوطنية للبنادق (NRA)، تمتلك علاقات وثيقة مع شركات تصنيع الأسلحة، التي تصل قيمتها إلى مليارات الدولارات في الولايات المتحدة، وبالتالي، تُعطى الأولوية لجني الأرباح على حساب السلامة العامة.
لم يتوانَ لوبي السلاح عن بذل الجهود لتعزيز نفوذه في البيت الأبيض ومجلسي الكونغرس، حيث قام بالمشاركة في تمويل الانتخابات الأمريكية عن طريق تقديم مساهمات مالية للحملات الانتخابية للمرشحين، الذين التزموا بمعارضة تشريع قوانين السيطرة على الأسلحة النارية، كما دعم الحملات التي تسعى إلى التأثير في الرأي العام بشأن القضايا ذات الصلة.
تشير تقديرات منظمة “Open Secrets”، التي رصدتها مجلة السياسة الدولية وتتابع اتجاهات وحجم الإنفاق في السياسة الأمريكية، إلى أنه بين عامي 1998 و2020، أنفقت الجماعات المؤيدة للأسلحة حوالي 171.9 مليون دولار في جهودها للتأثير على تشريعات حيازة الأسلحة، ومن بين هذا المبلغ، تم تخصيص نحو 64 مليون دولار للرابطة الوطنية للبنادق، التي أنفقت بدورها حوالي 50 مليون دولار خلال الاستحقاق الانتخابي لعام 2016 كنفقات خارجية لدعم ترشح ترامب وعدد من المرشحين الجمهوريين لمجلس الشيوخ.
حجم إنفاق لوبي السلاح في تمويل الانتخابات الأمريكية خلال 4 سنوات!
في إطار جهودها السياسية، أنفقت الجماعات المؤيدة للأسلحة في عام 2020 حوالي 12.2 مليون دولار لدعم 145 مرشحًا جمهوريًا في انتخابات الكونغرس، بالإضافة إلى 12.2 مليون دولار لمعارضة الرئيس جو بايدن. كما قدمت 4.2 مليون دولار لدعم ترشح ترامب، وبالنسبة للانتخابات الحالية لعام 2024، بلغت مساهماتها نحو 376.888 مليون دولار.
في تحليلٍ حديثٍ لمركز النزاهة العامة، وُجد أن واحدًا من كل عشرين إعلانًا تلفزيونيًا بُث في أكتوبر 2016 بولاية بنسلفانيا، المشهورة بتقلباتها الانتخابية، كان يحمل توقيع الرابطة الوطنية للبنادق، كما أشار التحليل إلى أن هذه الرابطة كانت وراء واحد من كل تسعة إعلانات في ولاية كارولينا الشمالية، ودعمت واحدًا من كل ثمانية إعلانات في ولاية أوهايو، مما يعكس بوضوح مدى تأثير جماعات الضغط المؤيدة لحقوق السلاح.
استطاعت المساهمات والمنح الموجهة للجمهوريين في إطار تمويل الانتخابات الأمريكية أن تُثمر نتائج إيجابية خلال السنوات الأخيرة، حيث تعهد ترامب، بشكل متكرر، بدعمه لحقوق حمل السلاح، مؤكدًا للرابطة الوطنية للبنادق في 2017 أنه لن يتخلى عنهم، ومع ذلك، فإن التصويت على مشروع قانون حظر الأسلحة الهجومية في 2022 شهد دعمًا ضعيفًا، حيث صوّت اثنان فقط من بين 210 أعضاء جمهوريين في مجلس النواب لصالحه، وهو ما يعادل 1% فقط من الجمهوريين في المجلس.
الديمقراطيين ومحاولات السيطرة
في ظل تزايد المخاطر المرتبطة بجرائم العنف المسلح وحيازة الأسلحة، حققت إدارة بايدن سلسلة من الإنجازات الهامة، من أبرزها إقرار قانون المجتمعات الأكثر أمانًا في عام 2022، الذي يُعد من أبرز القوانين التي تقيّد حيازة الأسلحة النارية على مدى عقود، كما أُسِّس في عام 2023 أول مكتب لمنع العنف المسلح في البيت الأبيض، والذي تم تعيين نائبة الرئيس كامالا هاريس لإدارته، حيث اتخذت عبره تدابير صارمة تجاه حيازة الأسلحة الشبح.
تُعتبر هذه السياسات سببًا رئيسيًا في انخفاض معدلات جرائم القتل بالرصاص خلال فترة بايدن إلى أدنى مستوياتها خلال 50 عامًا، في حين كانت البلاد قد شهدت ارتفاعًا ملحوظًا بنسبة 30% في العام الأخير من ولاية ترامب، وهو الرقم القياسي في التاريخ الحديث.
يستمر الحزب الديمقراطي في رفع شعار “حرية العيش دون خوف من العنف المسلح”، وهو يسعى للاستفادة من الإنجازات التي حققتها إدارة بايدن، ويشمل الفصل الخامس من أجندة الحزب لعام 2024 التزامه بحماية المجتمعات ومعالجة مسألة العنف المسلح، ويتعهد الحزب بحظر الأسلحة الهجومية، وضمان تخزين الأسلحة النارية بطريقة آمنة، وإجراء فحوصات شاملة لخلفيات حاملي الأسلحة بالإضافة إلى ذلك، يسعى إلى إنهاء حصانة شركات الأسلحة وزيادة التمويل المخصص لجهود إنفاذ القانون، ودعم الأبحاث والتدخلات المجتمعية لمواجهة أزمة العنف المسلح.
ترامب والتحالف مع مالكي السلاح
في هذا الإطار، لم يترك ترامب وسيلة إلا وسعى من خلالها لدعم حقوق حمل السلاح في شتى الفعاليات والمؤتمرات، فقد أعلن، أمام حشد من الآلاف من مؤيديه في فعالية نظمتها “الرابطة الوطنية للبنادق” في فبراير 2024، عن عزمه إلغاء جميع القيود التي فرضها بايدن على حمل الأسلحة، وقطع وعدًا بإجراء ذلك في أول يوم له في البيت الأبيض، كما أبدى اعتزازه بمقاومته الضغوط التي سعت إلى فرض قيود على الأسلحة النارية خلال ولايته الأولى بين عامي 2017 و2021.
في 18 مايو 2024، أعلنت الرابطة الوطنية للبنادق عن دعمها الرسمي للرئيس ترامب، الذي حث خلال المؤتمر الوطني للرابطة في اليوم ذاته مالكي الأسلحة على المشاركة في الانتخابات والتصويت لمصلحته. جاء ذلك بالتزامن مع إطلاق حملته الجديدة “تحالف مالكي الأسلحة من أجل ترامب”، التي تضم نشطاء مؤيدين لحقوق حيازة السلاح ورواد شركات صناعة الأسلحة النارية.
ورغم محاولة الاغتيال التي تعرض لها ترامب في حادث إطلاق نار منتصف يوليو 2024، فإنه لم يتراجع عن دعمه لحقوق حيازة السلاح، بل أعلن خلال أول قمة تعقد للدفاع عن مصالح مالكي الأسلحة في الولايات المتحدة في 17 أغسطس 2024 عن استمراره في دعم حق المواطنين في حمل السلاح، مؤكدًا أن المعركة حول هذه الحقوق مع الحزب الديمقراطي أصبحت أكثر خطورة، خصوصًا مع صعود الفصائل الأكثر تشددًا ضد حيازة الأسلحة النارية، حيث دعمت هاريس طوال مسيرتها المهنية الجهود الرامية لمصادرة الأسلحة وفرض قيود على حيازتها.
ختامًا
يأتي موقف ترامب بشأن رقابة الأسلحة في تضاد كامل مع توجهات الناخبين الأمريكيين، فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز أبحاث الشؤون العامة نورك (NORC) بالتعاون مع وكالة أسوشيتد برس في أغسطس 2023، أن 70% من الجمهوريين و90% من الديمقراطيين يدعمون فرض قوانين أكثر صرامة على حيازة الأسلحة، بالإضافة إلى حظر الأسلحة المستخدمة في حوادث إطلاق النار الجماعي. هذه النتائج تُبرز النفوذ المتزايد الذي يمارسه لوبي السلاح على ترامب، مما يُشير إلى أنه قد يتبع رغباتهم، ويبذل جهدًا كبيرًا لحماية مصالحهم، معارضةً أي تدابير تهدف إلى تقليل حيازة الأسلحة، دون مراعاة للتهديدات التي تواجه سلامة المواطنين، أو تقليل حوادث إطلاق النار الفردية والجماعية.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال