جاحظ مصر وحامل لواء الكتابة الساخرة .. الشيخ عبدالعزيز البشري
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
صندوق الدنيا، كتاب للكاتب والصحفي أحمد بهجت، ذكر في مقدمته الشيخ عبدالعزيز البشري كحامل لواء الساخرين، استفزني الاسم واللقب فلم أهدأ إلا بعد أن نبشت بحثًا عنه وعرفت الكثير من المعلومات التي جعلته حقًا يستحق ما أطلقه أحمد بهجت عليه.
في عهد من العهود كانت مهنة الصحافة وموهبة الكتابة وممارسة الفن جالبة لازدراء المجتمع والسخرية ممن يمارسونها، فلم يكن حينها تُقبل شهادة الصحفي أو الممثل، وكان الكُتاب يضعون أسماءً مستعارة على أغلفة رواياتهم.
اقرأ أيضًا
كان مع الله.. اللحظات الأخيرة في حياة طه حسين
في مثل هذه الأجواء المقبضة ولد الأستاذ الشيخ عبدالعزيز البشري في العام 1886، ذلك الطفل الذي كان يلهو بين أركان مكتبة والده عالم الحديث وأحد مشايخ الأزهر، ويلقنه الأب العلوم الدينية واللغة العربية، ويتمكن الطفل من القراءة فينهل من ذخائر المكتبة حتى يرتوى، ويتتلمذ على يد المرصفي، وتجمعه بالعميد طه حسين صداقة ويجتمعان على حب الأدب، ويقع البشري في هوى الجاحظ أديب العرب الأكبر، ولم يكون الهوى هوى محبة، ولكن هوى التعلم والسير على نفس النهج، ويحفظ مؤلفاته، ويسري أسلوب الجاحظ في وجدان البشري سريان الدم في العروق، ثم يبدأ البشري حياته كأمين السر العام بوزارة الأوقاف، ويرتقي لوكيل المطبوعات بوزارة المعارف، ويتم تعيينه كقاضٍ في أحد الأقاليم، وأخيرًا يعُين مراقبًا إداريًّا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
لم يكن عبد العزيز البشري من مؤلفي الكتب، لكنه عبر عما يجول برأسه من أفكار في مقالات صحفية اتسمت بانتقاء الكلمة، وسلاسة العبارة، فقد كان يصور ما يراه وما يحسه بدقة وإبداع، كذلك اتسم أسلوبه بالسخرية العذبة التي لا تثير الغضب، ولا تؤثر على الصلات، بل تثير البسمة، وتؤثر في النفس بالبهجة، فأسَّس مدرسة خاصة به متبعًا الأسلوب الساخر في كتاباته التي تميزت بالأسلوب السهل الممتنع دون ابتذال أو إسفاف، وحطم تابوه الساخرين كما حطم التابوه الخاص بالقضاة، وفي نفس الوقت لم يكن ماجنًا أو تافهًا، وكان حريصًا ألا تنال سخريته وخفة دمه من هيبته الأزهرية.
وقد جُمعت مقالاته في ثلاثة كتب هي : “المختار” وفيه بحوث أدبية وترجمات لبعض أدباء عصره، والكتاب الثاني هو “قطوف”، ويتناول في جزأين بعض الدراسات العربية الإسلامية، والنظرات الاجتماعية التي تعالج مشاغل الناس ومتاعبهم، وتفصح عن آلامهم وآمالهم، وتنتقد العادات السيئة التي تعرقل نمو المجتمع وتقدمه، أما الكتاب الثالث فهو “في المرآة” ويتناول تصويرًا وتحليلًا كاريكاتوريًا لمجموعة من الشخصيات التي عرفها البشري واقترب منها.
دعني الآن يا عزيزي أقص عليك بعض من الطرائف التي اشتهر بها صاحب مقالنا اليوم، والذي عٌرف عنه دماثة الخلق، وخفة الروح، وحلاوة العشرة، والذكاء الفطري، وتكشف مواقفه عن سرعة البديهة التي لم يستخدمها قط في إيذاء الآخرين ولكنه استخدمها في رد الموقف بالموقف والكلمة بالكلمة :-
كان الشيخ يشغل منصب قاض شرعي، وذات يوم اجتمع في مجلس مع الفريق إبراهيم فتحي باشا – وكان وزيرًا للحربية آنذاك- فأراد الفريق أن يمزح مع الشيخ القاضي فقال له: هل تعرف الحديث الشريف: قاض في الجنة وقاضيان في النار، فأجاب الشيخ عبد العزيز بخفة متناهية: نعم، وفي القرآن الكريم: فريق في الجنة وفريق في السعير.
ويذكر أنه كان مدعوًا مع أصدقائه على العشاء، وعندما نهض ليغسل يديه، عاد فوجد عباءته مرسومًا عليها وجه حمار، فصاح قائلا وهو يرد الصاع صاعين بهدوء تام : من منكم مسح وجهه في جبتي؟ ليضحك الجميع.
وفي يوم ركب ترام وجلس إلى جانبه فلاح نظر إلى الشيخ وأخرج من جيبه خطابًا ناوله له ليقرأه، ولرداءة الخط تعسر على البشري قراءته فأخبره أنه لا يستطيع القراءة، فاندهش الفلاح وقال : أمال العمة الكبيرة دى كلها على أيه؟ فما كان من البشرى إلا أن خلع عمامته ووضعها على رأس الفلاح وقال له: اتفضل اقرا انت بقى!!
فآلاف من الرحمات على الكاتب العصي على التلخيص أو العرض، والذي رحل في عام 1943 تاركًا لنا صورة حية للواقع المصري استعرضها في مقالات تنبض بالحياة.
الكاتب
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال