خداع النوستالجيا..كيف كشف “الترام” عن وجه القاهرة القبيح؟
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
ظهر الترام في القاهرة، وأحدث تأثيره على الحياة بكل تنويعاتها، فبدأ الشباب يخرجون للملاهي وحفلات الرقص في المواخير، وبدأت الروابط الأسرية تتفكك بعدما قلت رقابة الآباء على الأبناء، وعَظُم دور التجّار، فنشأت المحلات الكبرى لتجارة التجزئة في ميدان العتبة الخضراء والجهات المجاورة له، وظهرت قيمة الإعلانات التجارية.
وكان لظهور الترام دورًا حيويًا في الحركة العمالية، واتسعت الحركة الوطنية في البلاد، وكثر إنشاء الأندية الرياضية وتشكلت فرق وطنية وأجنبية، وظهر ما يُسمي بالأدب الترامي في الفترة من سنة 1896_1914.
ورغم الحيوية التي ضخها ظهور الترام في قلب حياة الناس، إلا أنه كشف عن القبح الذي كانت تخوض فيه شوارع مباني وأناس القاهرة، بالإضافة إلى طبائع الناس وأخلاقهم في شوارع القاهرة خاصة أثناء تنقلهم عبر الترام.
قبل الترام.. القذارة في بيوت وشوارع القاهرة
كانت مدينة القاهرة حوالي 55.597 بيتًا، 397 جامعًا، ولم تكن شركة المياه تمد من المنازل والجوامع سوى 4.397 بيتًا وعشرة جوامع، وبقية البيوت والمساجد تستمد مياهها من الآبار، وبعضها من صهاريج تملأ أثناء الفيضان، وبعضها من السقائين منقولة من النيل مباشرة.
وفي عام 1892 كتب اللجنة المسئولة عن تنظيم مشروع مجاري القاهرة تقريرًا جاء فيه:” إن مياه الأقذار في القاهرة تجتمع الآن، لعدم المصارف فيها، في خزانات مقامة تحت المنازل، فينصرف قسم منها في الأرض، وينزح القسم الآخر كلما اقتضت الحل ذلك، وطريقة نزح المواد البرازية، صارت تنزح تلك الخزانات بطلمبات بخارية، تمتص المواد البرازية منها وتلقيها في عربات حوضية مسدودة سدًا محكمًا، وتنقل تلك الخزانات إلى خارج المدينة”.
كما وصفت اللجنة في تقريرها المحلات التجارية ومنازل الفقراء والأغنياء: ” إن المحلات الحقيرة المعروفة بالعشش هي أشد ما يمكن للذهن تصوره من الأماكن المضرة بالصحة، والبيوت من حيث النظافة والتدابير الصحية في حال يرثى لها، ويصعب أن يتصور الذهن أسوأ منها”.
ووجدت اللجنة أن مرتفعات جامع السيدة زينب والجامع الأزهر خصوصًا، محلًا للانتقادات لعدم مناسبتها، كما أن المرتفعات العمومية المقامة في جنينة الأزبكية يدخلها في اليوم الواحد 9 آلاف شخص لقاء حاجاتهم، ينتج عنه 141 ألف متر مكعب من المواد البرازية في السنة الواحدة، ما يشحن الأرض قذارة ويفسد مياه الآبار التي يشربها العديد من الأهالي.
وتوصلت اللجنة إلى أن هذه الحالة الصحية والبنية الأساسية ينتج عنها 64،10 في الألف من السكان في السنة.
ووصف أحد الكُتاب في مقال بجريدة “المقطم” حال العاصمة عام 1893 يقول، وكانت القاهرة تعج بالعشش الحقيرة التي تساعد على نشر الأمراض والأوبئة مثل عشش البقلى وعشش أخرى في حي الخليفة وشلبي بالرفاعي، وعشش الحدادين بالسيوف، وأخرى بباب الشعرية وحوش الحلواني بالعمري، وعشش عل جانبي الترعة البولاقية من مبتداها إلى منتهاها، وعشش الشيخ على ببولاق، هذا غير الأرض الخراب المنتشرة في جميع أنحاء البلاد.
ورغم هذه الصورة القبيحة للقاهرة، إلا أن مجلس الشورى رفض أن يوافق على الاعتماد الذي طلبته الحكومة في ميزانية سنة 1894 كدفعة أولى لتنفيذ المشروع وقدره 40 ألف جنيه، وظلت العاصمة محرومة من المصارف الصحية لفترات طويلة.
وجه قبيح.. القاهرة بعد دخول الترام
يعتبر يوم 12 أغسطس لسنة 1896 هو اليوم الأول الذي سارت فيه قطارات الترام تشق شوارع القاهرة، لتضع حدًا فاصلًا بين ماضي البداوة والتأخر الذي تشكل في استخدام الحمير والخيل وسيلة للتنقل، إلى المدنية والحضارة الذي تمثل في استخدام القوة الكهربائية، فبعد أن كان يعاني الشعب من الانتقال من مكان لآخر من جراء استبداد أصحاب الحمير والعربات وتحكمهم في الناس وما يوجهونه للجمهور وألفاظ سافلة وعبارات نابية حتى أصبحت كلمة حمّار أو حوذي “عربجي” ترادف سوء الأدب وانحطاط الأخلاق.
وبعدما أصبح الترام وسيلة المواصلات والتنقل، انتشر التدخين بين تلاميذ المدارس، ومنهم من تعاطى الخمر، وقضى الليل في ملاهي الأزبكية ومغانيها واختلط بالمومسات والراقصات، ويذهب في الصباح إلى المدرسة شاحب الوجه.
وجاء وصف طلبة الأزهر في “ترام القاهرة” الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، أنهم كانوا يترددون على المواخير والمراقص ويغازلون الفتيات ويترنحوا يمينًا ويسارًا إذا رأوا الراقصات.
ووصفت جريدة المقطم عام 1898، أن أدباء ذلك الوقت كانوا كلما رأوا سيدة أسمعوها من بذاءة أقوالهم ما لا يُسمع، بل يشترون الصور القبيحة ويبرزوها أمام الفتيات، كما أن الرجال العواجيز كانوا يرتادون الترام ذهابًا ومجيئًا يتهكمون على النساء بكل سفالة. ووصلت درجة الفساد إلى العثور على 13 لقيطًا في جوانب القاهرة.
وسمحت جريدة المؤيد عام 1907 لسائح يزور القاهرة فوصف ما رآه قائلًا:”هالني ما رأيت في القاهرة، من التهتك وعدم احترام الآداب في الطرق والمعاهد العامة، وهو ما لم أتصور وقوعه في قطر من أقطار المسلمين، فضلًا عن مصر التي هي قلب الأقطار الإسلامية”.
وأكد هذا الوصف “المنفلوطي” في كتابه “النظرات”، فقال إن كثيرًا من الفتيات الفاسدات لا يتزوجن إلا بعد أن يأخذن على أنفسهن عهدًا أمام أخلائهن أن يكن لهم بعد الزواج، أى بعد أن يصبحن مطلقات من قيود العُذرة وروابطها، وقلما تتزوج فتاة ذات صلاة فاسدة من رجل إلا وردت ليلة البناء بها، أو في صبيحتها كتب الوشاية بها من الأشخاص الذين اتصلت بهم، وأخلصت إليهم، فانتهى أمرها في حياتها الجديدة بالشقاء والعار.
الكاتب
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال