جديد عمرو دياب : مكانك .. إخضاع سوق الغناء لأفكاره الخاصة

“هل حانت لحظة التغيير” كان هذا عنوان مقال كنت قد تناولت فيه بالتحليل ثلاثة أغنيات أصدرها المطرب عمرو دياب أوائل عام 2023 ولمحت فيها بعضً التغييرات في طريقة اختيار الأغنيات، استمر الهضبة طوال العام في إصدار أغاني منفردة كان أشهرها أغنية “والله ابدًا” والتي خرج فيها من مناطقه الاّمنة ليجرب شيئًا جديدًا ونجح لأول مرة من فترة بعيدة أن يجبر الجميع على الحديث عن فنه فقط بعد أن كان الحديث مقتصرًا على الذكاء ومظهره الخارجي الذي لا يشيخ ابدًا.

والله ابدأ والخروج من المناطق الأمنة قد ينجح أحيانًا.

مع نهاية العام ألقى دياب بقنبلة فنية جديدة كانت عبارة عن ألبومًا كاملًا بعنوان “مكانك” بعد فترة انقطاع منذ آخر ألبوماته “يا أنا يا لاء” الصادر 2020 وبعد كم كبير من الأغاني المنفردة، الألبوم صدر في 12 أغنية قد يعتقد البعض أنها مجازفة فنية في ظل اكتفاء أغلب المطربين الأغنيات المنفردة، لكنها تثبت حقيقة واحدة هي أن عمرو دياب لازال الوحيد القادر على التلاعب بسوق الغناء وإخضاعه لأفكاره هو لا يلقي بالًا بما حوله، وعاد للتركيز أكثر في اختياراته بل وعاد لقيادة سوق الغناء بعد فترة جرب فيها التماهي مع “المينستريم” وأن كان وفق منطقه الديابي ايضًا.

اكتظ الالبوم بالعديد من الأسماء المهمة في مسيرة الهضبة وجمع عدة أجيال فنجد حضور الثنائي “بهاء الدين محمد،أيمن بهجت قمر” مع “تامر حسين،محمد البوغة،محمد القاياتي” والمفاجأة هي الاستعانة بكلمات “مصطفى حدوتة” الذي حققت أغنياته انتشارًا ضخمًا مثل “بنت الجيران،مسيطرة، مخصماك،عود البنات” وعلى صعيد الألحان واصل الهضبة الاعتماد على الثنائي “عزيز الشافعي، محمد يحيى” بجانب “محمد قماح،أحمد إبراهيم،مدين” بالإضافة إلى ثلاث أغنيات لحنها هو بنفسه، أما التوزيع الموسيقي فنال أحمد إبراهيم النصيب الأكبر بخمس أغنيات يليه وسام عبد المنعم بثلاثة أغنيات مع أغنيتان لأسامة الهندي وأغنية لكلًا من عادل حقي، شريف فهمي.

“بيوحشنا”

تسير كلمات تامر حسين وفق المنطق الديابي بتكرار مفردات بعينها “لا لا لا ، والله، وياه”التي غالبًا ما يغلق بها الشطرات التي عادة ما تكون سينيو الأغنية، فكرة الأغنية بسيطة بصياغة متماسكة ومقاطع قليلة جدًا اعتمد فيها على السينيو الطويل نسبيًا.

لحن مدين على مقام النهاوند مكون من فكرتين بالعدد،طول الجملة اللحنية أعطى عمرو دياب لإبراز المناطق اللامعة في صوته والتي اعطت قوة إضافية لـ اللحن، توزيع أحمد إبراهيم اعتمد قالب الفلامنجو مع منح عازف الجيتار مساحة جيدة في بداية الأغنية التي اقتربت من الدقيقة مع تغيير الجملة في الفاصل الموسيقي.

“سلامك وصل لي”

عناصر الأغنية كاملة تعيدنا إلى فترة التسعينات بداية من مفردات الشاعر محمد القاياتي والتي لا تلمح منها أي إيفيه أو جملة جديدة، لحن محمد يحيى على مقام الكرد بجمل طويلة نسبيًا في فكرتين لا تشعر برابط قوي بينهما مع توزيع ابسط من أحمد إبراهيم اعتمد فيه على مقسوم البحر متوسطي باستخدام البوزوكي في الفاصل الموسيقي، أفضل ما في الأغنية هو أداء عمرو دياب الذي تفوق على جميع عناصر الأغنية.

“معرفش حد بالأسم ده”

يعود الشاعر ايمن بهجت قمر بأغنية أفضل كثيرًا من أغانيه الأخيرة مع الهضبة، استخدم قمر نفس اسلوبه في استدعاء افيهات أو كلمات دارجة ساخرة بداية من عنوان الأغنية “معرفش حد بالاسم ده، قول له يعني ما خرجتش من الجنة، تكفير ذنوب”.

على عكس المتوقع صاغ أحمد إبراهيم لحنًا على مقام النهاوند يحمل طابع الأسى والحزن، بناء اللحن جيد جدًا بدأ بشكل تصاعدي يصل إلى ذروته في سينيو الأغنية “قوله يعني ما خرجتش من الجنة” وهي الجملة التي أراد التركيز عليها، صب اللحن في قالب من اللاتن بوب مع إيقاع قوي وجملة جيتار أكوستيك جيدة ترد على الغناء وجملة فاصل قوية جدًا، أداء عمرو سهل ممتنع تحكم فيه بشكل جيد في طبقات صوته التي ترتفع وتنخفض بسلاسة شديدة وهي من الأغنيات التي اتمنى ان اسمعها منه في الحفلات.

“تظبط مودها”

يحسب للشاعر بهاء الدين محمد قدرته على مواكبة الأجيال الجديدة والحديث بنفس لغتهم في أغنية يعطي فيها بعض النصائح للرجال في التعامل مع المزاج المتقلب للنساء.

لحن محمد يحيى على مقام النهاوند من فكرتين لم يحسن الربط بينهما فتشعر أنك دخلت في أغنية أخرى مع بداية الفكرة الثانية في المقاطع، توزيع عادل حقي اعتمد على جملة إيقاعية قوية جدًا مع جملة ساخرة من الكيبورد ومؤثرات صوتية وإنهائها بشكل جيد بجملة جديدة مستنسخة من روح اللحن.

“واخدين راحتهم”

فكرة جيدة من الشاعر “محمد البوغة” يسخر فيها من بعض المتطفلين الذين يفرضون أنفسهم على الأخرين ويفعلون كل ما في وسعهم لاستغلالهم، صياغة البوغة مميزة جدًا استخدم فيها مفردات جديدة عبر بها بشكل جيد عن الفكرة بسخرية لاذعة “يارب يكون عجبهم الفيو، في حاجة ناقصة ولا ننزل بالجاتوه، وحساب ده كله هيدفعوه فيزا ولا كاش” والأهم من كل ذلك أن الفكرة لا تأخذ منحى عاطفي بالمرة بل تضرب في صلب العلاقات الإنسانية ويبدو أنها رسالة مبطنة يرسلها عمرو لأحد ما.

لحن محمد يحيى على مقام الحجاز يحيلك لأول وهلة إلى أغنية “عايزين يغيروك” الصادرة عام 1996 في ألبوم نور العين، انتقل بعدها إلى مقام الكرد في الكوبليهات، توزيع وسام عبد المنعم استخدم قوة إيقاع المقسوم مع حلياته المعتادة و أوكورديون أعطى خفة ولمحة ساخرة في مردات الغناء على عمرو دياب وجملة فاصل موسيقي جيدة، أداء عمرو في أفضل حالاته.

“مكانك”

تظل مشكلة تامر حسين الأساسية في تماسك الفكرة رغم أنه لا يخترع أفكار جديدة لأن أغلب أغانيه تدور في فلك العاطفة فقط، الأغنية تم التركيز على سينيو الأغنية بل جعلها عنوان لها بل وعنوان الألبوم “لا مكانك اتملى ولا يوم حبيت ولا اتخيلت قلبي أنا مع غيرك يا أنا”التي توحي بعدم اكتمال قصة الحب التي في خيال البطل، ثم لم يطور القصة في المقطع الاخير “عيني فتحتها شافت حلمها والصوره الليلة دي جيت كملتها” ثم ينهي بنفس السينيو” لا مكانك اتملى” ناهيك عن الصياغة التقليدية جدًا في قوافي متوقعة جدًا “سنة،هنا،بعضنا”.

لحن عمرو دياب على مقام النهاوند بجمل رومانسية حالمة دغدغت المشاعر وتجعل المستمع يتغاضى عن فكرة الكلمات الضعيفة جدًا مع إخراج موسيقي مدهش من أحمد إبراهيم حمل أجواء باريسية شتوية جدًا.

“يا قمر”

مفاجأة الألبوم بالاستعانة بالشاعر “مصطفى حدوتة”، وهي أول أغنية غزل صريحة في الألبوم،صياغة الأغنية طريفة جدًا أبرزت امكانيات حدوتة الذي كان من الممكن ألا يكتفي بالعدد 12 ويستمر حتى ما لا نهاية وفي كل مرة كان يضع وصف جديد يتناسب مع الرقم وفي نفس الوقت ينهي المقطع بشكل مختلف ثم انهي جدل الأرقام  بشكل جيد ” إنتي نسخة واحدة مش زي أي واحدة، يا حبيبتي دا إنتي فرصة بتيجي في العمر مرة واحدة” لحن عمرو دياب اخذ كلمات حدوتة لمنطقته هو نفسه وحاول تخيل الكلمات لو من غناء أي مطرب مهرجانات أخر كيف كان سيكون اللحن مع تقطيعات حدوتة وهو ذكاء شديد من عمرو دياب، توزيع وسام عبد المنعم بنفس المقسوم التقليدي الديابي لأن التركيز كله كان على كلمات حدوتة التي تشبه المونولوجات الساخرة.

“لوحدنا”

لن أعيد ما قلته عن تامر حسين حيث نفس المفردات الديابية “حبيبي، الليلة” بل أتصور أن كلمة “بينا الليلة” حلت محل “تعالى الليلة “، لحن تقليدي من عمرو دياب جدًا على مقام النهاوند مع توزيع من اسامة الهندي صبه في قالب اليورو دانس وهي الأغنية المصنوعة لمغازلة الديجيهات والديسكوهات.

“الكلام ليك”

إقرأ أيضا

بـ “1500 فَرْخ” .. هكذا بدأت قصة طوابع البريد في مصر

أضعف أغنية في الألبوم حيث لا جديد على مستوى كلمات تامر حسين حيث توضح الصياغة أنها كتبت كنوع من تسديد الخانات كي تتوافق مع تيمة اللحن فقط، لحن ضعيف ومستهلك من محمد قماح على مقام النهاوند مع تغليف تقليدي من أسامة الهندي حيث نفس المقسوم الديابي التقليدي.

“ماتتعوضش”

أفضل أغنية لتامر حسين في الألبوم كله، فكرة متماسكة مع بعض لمحات تجديد على قاموسه بالأخص مقطع “مين أفتى وقال إن النسيان بالوقت، سايبك من أمتى وياما اشتقت،وأن كنت بخبي في قلبي عذابي عليك، ما بقتش خلاص أكتر دلوقتي”.

لحن محير من عزيز الشافعي على مقام النهاوند بدأ بشكل قوي جدًا ثم شابه بعض الضعف في قفلات الجمل التي تتغير فيها طبقة صوت عمرو دياب، توزيع جيد جدًا من عازف الجيتار شريف فهمي منح نفسه مساحة جيدة للتنويع في صولوهات الجيتار مع اكورديون دون استنساخ أي جملة من اللحن.

“مابتغبش”

لازلت عند رأيي أن عزيز الشافعي يكتب الأغنية أفضل من نصف شعراء سوق الغناء الحالي، معالجة كلاسيكية جدًا للفكرة من ناحية المفردات دون إخلال بالتماسك،لحن الأغنية واحد من أحلى الألحان التي وضعها عزيز الشافعي، اللحن على مقام الكرد بتسلسل نغمي سهل من مسألة الاندماج مع اللحن، توزيع شرقي استغل جمل اللحن القوية بشكل جيد في استنساخ جملة الوتريات مع الكيبورد،إحساس عالي من عمرو دياب بكل جمل اللحن وهي درة أغنيات الألبوم.

“المعنويات مرتفعة”

يحاول أيمن بهجت قمر أن يضع بعض لمحات تجديد لكنه اختار عنوان ثقيل جدًا في النطق وفي القافية، اعتمد على مفردة “المعنويات مرتفعة” دون أن يوضح الأسباب ومن غير المنطقي أن يكون السبب أن “عيشة زمان ماهيش نافعه” التي كان من الممكن أن يبدأ بها ليؤكد على فكرة التخلص من الماضي وبدء حياة جديدة بمنطق مختلف.

لحن عزيز الشافعي على مقام الحجاز مع نقلة بسيطة إلى الكرد، جمل اللحن تلمح فيها روح أغنية “رصيف نمرة خمسة”، توزيع وسام عبد المنعم بدأ من الجيتار الكلاسيكي بصولو لا علاقة له بالأغنية سوى المقام الموسيقي فقط حتى دخول إيقاع المقسوم ولزمة تقليدية جدًا من الجيتار والأكورديون.

كيف تصنع الحدث في نص يوم فقط

صنع عمرو دياب الحدث بإصداره ألبومًا كاملًا في وقت أصبح صنع ألبومًا مغامرة فنية غير مضمونة العواقب وجعل الكل يتسمر أمام تطبيق أنغامي “المنصة الحصرية لأغانيه” في انتظار صدور الأغاني تباعًا وعلى مدار نصف يومًا كاملًا وهي تؤكد على عدة حقائق انه لا يعبأ بقواعد سوق الغناء ولازال قادرًا على إخضاعه لأفكاره الخاصة ولا استبعد أن يحذو حذوه بقية المطربين ويعود الألبوم إلى السوق مرة أخرى، بالإضافة إلى تركيزه على عمله فقط يصيبه فشل احيانًا لكنه صامد لا يهتز يقوده شغفه لاقتناص النجاح وأصبح من العبث أن نضعه في مقارنة مع جيله المختفي تمامًا أو حتى مع الاجيال الجديدة التي أصبحت تنظر إليه كأوضح مثال للنجاح والاستمرارية على القمة ثلاثين عامًا متواصلة.