حدوتة من زمن التليفون أبو قرص
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
- فين البَلتكَانات؟
- الكمودينو ماوصلش.
- السونتيانات ماجتش ليه؟
أسألة عجيبة وصلت بيتنا مع وصول التليفون أبو قرص.
الدين لله واستقبال المكالمات للجميع
في تمانينيات القرن اللي فات كان التليفون الأرضي عملة نادرة، وأهالينا عاملوه معاملة أجدادهم للنار، ماقصدش إن الموضوع وصل لدرجة العبادة، لكن مجتمعيًا كان التليفون مشاع بشكل ما.
أي شارع بالكتير قوي فيه تليفونين تلاتة، -لامؤاخذة- واحد في قهوة والتاني عند بقال والتالت عند واحد له واسطة أو من كُبرات المنطقة.
الاتصال كان بفلوس عند البقال وفي القهوة، ومجاني لحبايب أبو واسطة أوقات الطوارئ فقط، يعني عايزين نجيب دكتور لواحد بيفرفر أو عيل سُخن أو حد مات.. إلخ.
إنما الاستقبال، فحق شرعي مُكتسب للجميع ولا يحق لصاحب التليفون الاعتراض، لإن المُتصِل أساسًا تكبد مشقة الوصول لتليفون والاتصال (نادر الوجود أصلًا) وهو عارف إن التليفون المُستقبِل موجود عند الجيران، فقطعًا مش بيهزر ولا عايز يتونس.. إنما فيه خبر مهم جدًا ولازم يوصلُه فورًا.
من الطبيعي إن الجيران تتخانق سوا أو يخاصموا بعض لأي سبب، فتتقطع السلامات ماشي.. المُعايدات مايضُرِش.. العزومات تتعوَض.. بس التليفونات مستحيل. ولو أتعرف إن صاحب التليفون استقبل مكالمة تخُص جار بينهم زعل، ومارحش بَلّْغ ولا بعت حد يبَلّْغ.. يبقى غلطان ومحقوق ومايقدرش حتى يدافع عن نفسه.
القاهرة ..عام 1975م
نلاحظ التليفون الأرضى موجود عند البقال والآنسة واضح عليها السعادة في المكالمة 😉♥
صندوق البريد الأحمر معلق علي الحائط وكان مخصص لجمع الخطابات وتوزيعها بمساعدة ساعى البريد..وكان كل واحد بيكتب علي الخطاب من الخارج شكرا لرجل البريد 📩زمان ولا موبايل ولا ايميل pic.twitter.com/G9LLPohNkb— Sherien Hamdy🌷 (@eng_sherien) July 10, 2022
في نهايات تلك الحقبة من مشاعية التليفون الأرضي كانت طفولتي البِكر، حيث تدور حكاية “الأچندة الصفرا”.
والله وعملوها “الفوّالة”
بابا (الموظف في شركة النصر للبترول/ممثل كوميدي) قدم طلب الحصول على تليفون أرضي في سنترال الأوبرا سنة 1974، نفس سنة ميلاد أختي الراحلة “غادة/هاجِر”، وبعد وسايط وجري ولف وزن تم تركيب التليفون أخيرًا سنة 1988، حين كانت المرحومة غادة/هاجِر تحتفل بعيد ميلادها الأربعتاشر.
هذا الحدث التاريخي كان نتيجة انتقال مجموعة كبرية من الخطوط التابعة لسنترال “الأوبرا” إلى سنترال “الفوّالة” فور افتتاحه، نتج عن ذلك إنفراجة في سنترال الأوبرا، اللي بقى فيه كمية من الخطوط الشاغرة، تم تسكينها طبقًا لأقدمية الطلب أو واسطة صاحب الطلب.
عشان أخيرًا يبقى عندنا تليفون في البيت، ويبطل بابا يروح “مكتبه العام” الكائن في شارع نجيب الريحاني.
المكتب العام (القهوة)
علاقة البابا كممثل طموح بقهوة نجيب الريحاني كانت قوية جدًا، وأنا عيل كنت فاكره بيحب الطاولة أو الزباين دول أصحابه اللي مايقدرش يستغنى عنهم أو أي حاجة مصيرية تخليه ينزل المشوار ده بشكل يومي، حتى وهو تعبان.
في الأول خالص كنت فاكره صاحب القهوة، ما كل عيل بيشوف أبوه أهم حد في أي حتة، الراجل كان أول ما يخش القهوة كل القاعدين يسلموا عليه، وهو يسأل القهوجي لو كان جاله تليفونات، وساعات الراجل اللي قاعد ع المكتب، اللي عليه التليفون، وبيلم المَارّك* (المِعَلِم) كان يديله ورق أو جواب حد سايبهوله.
بذمتكم الراجل ده في عيون إبنه مش ينفع صاحب القهوة؟؟
ثم مع الوقت فهمت إن بابا زيُه زي زباين كتير؛ ممثلين ونقاشين ومحاسبين وحدادين وسواقين.. إلخ، جعلوا القهوة مكتبهم، يستقلبوا من خلال تليفونه طلبات الشغل. وأتأكدت من ده بعد ما التليفون دخل البيت، ورُحت مع بابا مقر النقابة (نقابة المهن التمثيلية)، عشان يغير رقم التليفون المكتوب قصاد اسمه في سِجل النقابة، من رقم تليفون قهوة نجيب الريحاني البيت.
مُدخلات حديثة
مع وصول التليفون ظهرت حاجات جديدة في البيت؛ ترابيزة صُغيرة مخصصة للتليفون الرُمادي أبو القرص “العِدة”، خناقات طفولية كل ما التليفون يرن.. على مين اللي يرد، “نُوتِةِ” تليفونات صُغيرة في جيب كل عيل مِننا.. لحفظ أرقام الأصدقاء والمعارف.
بما إننا بقينا “الجيران اللي عندهم تليفون” بقت توصلنا تليفونات تخص جيرانا في البيت، أو أحيانا حد منهم يخبط علينا عشان عايز يعمل تليفون مستعجل، وبطبيعة الحال كان الاستقبال حق للجميع إنما الاتصال للحبايب فقط، عشان كده كان المقر الرئيسي للتليفون في الصالة.. قصاد باب الشقة مباشرة.
أغرب جيران كان لهم حق الاستقبال همه أسرة بلكونتهم في وش بلكونتنا لكن مدخل بيتهم في الشارع الموازي لشارعنا، بس عشان ماما وطنط أمال كانوا أصحاب فكان ليهم حق الاستقبال، الغرابة ماكنتش إنهم مش من سكان البيت، إنما في طريقة الاستقبال نفسها.
ماما كانت تستقبل المكالمة بالكامل وتِعرف التفاصيل والأخبار وتتولى هي تبليغها لطنط أمال عبر البلكونة، كل سِت واقفة في بلكونة بيتها ويتكلموا بصوت واطي لكن بحركة شفايف واضحة لبعضهم (خصوصًا لو موضوع المكالمة يخًص طنط سميرة “سِلفِة* طنط أمال” اللي ساكنة فوق سطوح بيتنا)، وبكده تتنقل الأخبار من المُتصل/ة إلى طنط أمال اللي نادرًا ما كانت تيجي البيت عندنا.
طنط أمال
بس لما تيجي كنت أفرح جدًا، كل حاجة في طنط أمال كانت مميزة فَشخ؛ أسلوبها في الكلام.. الأمثال اللي بترصع بيها كلامها طول الوقت.. مصمصة شفايفها.. لوي بوزها وتحريكه يمين وشمال بسرعة رهيبة، في حركة ذات دلالات متعددة؛ فضيحة أو مصيبة أو خيبة أو شماتة وحاجات تانية كتير، باختصار بتتفهم من سياق الأحداث ودايمًا بتكون مُعبرة.
بس تظل أكتر حاجة مُمَيزَة في طنط أمال، الله يرحمها، “ملايتها اللّف” التي لم تتخلى عنها رغم إنقراضها من عالم الأزياء، وأعتقد إنها أخر سِت مصرية فِضّلت متمسكة بيها لحد ما قابلت وجه كريم.
ولطنط أمال الفضل في معرفتي إن ليا أختين ماتوا قبل ميلاد أختي الكبيرة “نهى/سحر” ربنا يديها الصحة؛ حيث كانت تنادي علينا دايمًا باسم چيهان وتقول لماما (يا أم چيهان)، فكان ده السبب أني دورت كتير ونَخْرَبّت أكتر لغاية ما عرفت بوجود أختين أكبر ماتوا وهمه صغيرين.
تفاصيل منقرضة
دخول التليفون “الأرضي” لبيتنا زي ما ضاف حاجات لحياتنا تسبب في انقراض حاجات تانية، أولها وأهمها قعدة بابا على قهوة نجيب الريحاني، تانيها وصول أي ريجيسير للبيت عشان يسلم أوردر شغل لبابا (تصوير سيما وتلفزيون أو تسجيل إذاعة).
وطبعًا بطلنا نضطر ننزل مخصوص عشان نعمل تليفون من عند عم شكري بتاع السجاير اللي على ناصية كلوت بك، أو ننزل الشقة اللي تحتينا نستقبل تليفون عند أم حمدي (صاحبة البيت)، واقتصر نزولنا عندها على دفع الإيجار فقط لا غير.
الأجندة الصفرا
استخدام بابا للتليفون كان مختلف عن أي حد فينا؛ غير إنه كان أكتر واحد بتجيله مكالمات، كمان كان أكتر حد بيعمل مكالمات، بس مكالماته نادرًا ما كانت فردية، إنما عبارة عن “جلسة مكالمات”؛ نعملُه كوباية شاي ويولع سيجارة ويحط التليفون قدامه ويسحب “الأجندة الصفرا” بتاعته ويبدء يعمل سِيل من المكالمات.
أجندة التليفونات الصفرا بتاعته أكبر من أجندة أي حد فينا وغير قابلة إنها تتشال في الجيب زي بتاعتنا، لإنها في حجم كتاب التربية الوطنية، حتى كتابة الأسامي فيها كانت مختلفة؛ حيث فيه أسماء كتير قصادها تعريف بصاحب الاسم. فلان مُخرج.. علان مُنتج.. ترتان ريجيسير.. وأشي مصور على مساعد مُخرج على دياولو*.
جلسة التليفونات كانت موسمية “فِهمت ده بعد فترة”؛ دخلة الصيف أو الشتا عشان مواسم المسرح، قبل رمضان عشان التمثليات (كلمة مسلسل ماكنتش شعبية)، وقبل الأعياد عشان الأفلام.
كل اللي بابا يعرف أو يسمع إنه داخل شغل جديد يتصل بيه، “يعَيّد” عليه وطبعًا الطرف التاني بيفهم أوتوماتيك مَغزَى المكالمة، فاللي شايف لُه دور يناسبه في “العمل” يبعتله الورق (السيناريو)، واللي ماعندوش أهو إفتكره. ففي ذلك العصر الغابر ماكنش فيه سوشيال ميديا ولا أي وسيلة يقدر بيها الفنان يفكر الجمهور والوسط بوجوده، “الأجندة الصفرا” كانت وسيلة فناني تلك الحقبة في التفاعل والتواصل مع بعصضهم، زي التاج والمينشن في بوستات اليومين دول.
أما لو كنت “نجم” فأجندتك مختلفة، يعني فيها صحفيين ومُعدين برامج منوعات في الإذاعة والتلفزيون (بنحكي عن عصر ما قبل الفضائيات والأنترنت)
شركة بيع المصنوعات
التليفون لما دخل بيتنا رفع من ناحية مستوى تواصلنا مع العالم ومن ناحية تانية رفع مستوى إزعاج العالم لينا؛ بما إن بابا كان معاه واسطة جامدة – أخو عم شُكري بتاع السجاير – كان موظف في سنترال الأوبرا، فجاب لنا رقم مميز (913815)، وزي ما قولتلكم الخطوط المتاحة في سنترال الأوبرا ماكنتش جديدة إنما كانت مع ناس تانية إتنقلوا لسنترال الفوّالة.
على حظنا رقمنا المميز كان ملك إدارة المخازن في شركة بيع المصنوعات المصرية، ومطبوع في كافة إصداراتهم الدعائية من أچندات ونتايج وخلافُه، فكنا يوميًا من الساعة تسعة صباحًا بتنهال علينا إتصالات من مختلف منافذ الشركة، في العاصمة، بيطلبوا طلبيات أو بيستعجلوها.
وكتير منهم ماكنوش بيصدقوا إن النمرة غلط، وبيعتقدوا إن اللي بيرد عليهم موظف كسلان مش عايز يشوف شغله، فكانت إصطباحتنا المعتادة سِيل من المكالمات الغَلّط بعضها من ناس كانت بتزعقلنا حرفيًا:
- فين البَلتكَانات؟
- فين الكساء الشعبي؟
- ابعت الترابيزات يا سيد.
- السونتيانات راحت فين؟
- الكمودينو ماوصلش ليه؟
- لا لخصخصة صيدناوي وشملا.
الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال