همتك نعدل الكفة
1٬830   مشاهدة  

حديث الصباح والمساء بين محسن زايد و نجيب محفوظ

محفوظ
  • حاصل على درجة الدكتوراه ومهتم بالفنون بشكل عام والبحث في التاريخ وصدرت له العديد من الكتب

    كاتب نجم جديد



لا شك أن نجيب محفوظ عبقرية أدبية بكل معاني الكلمة، فمراحل نجيب محفوظ الأدبية انقسمت إلى أربع مراحل بدايتها مصر الفرعونية ومن خلالها ناقش قضايا كثيرة منها فكرة التوحيد وطبيعة الحكم والحاكم مثل روايات عبث الأقدار وكفاح طيبة ولعل الاهتمام بالحضارة الفرعونية بعد ثورة 1919 كتأكيد للهوية المصرية كان له تأثير كبير فى كتابة هذه الروايات.

اقرأ أيضًا 
على طريقة جليلة في رواية حديث الصباح والمساء “هكذا ماتت ماري منيب”

جاءت المرحلة الثانية وهي المرحلة الواقعية ومعظم روايات نجيب محفوظ فى هذه الفترة تناقش الاستعمار والتحرر مثل بداية و نهاية و زقاق المدق وهي مرحلة سوداوية، ثم تأتي المرحلة الثالثة أدب الواقعية الملحمية مثل الثلاثية والحرافيش وأولاد حارتنا، بينما أما المرحلة الأخيرة مرحلة أصبح يناقش قضايا كبيرة في عدد وراق مكثف مثل أمام العرش التى يحاكم فيها كل حكام مصر بشكل سريع ومقتضب ورواية حديث الصباح و المساء وأبو فطومة وغيرها.

غلاف رواية حديث الصباح والمساء
غلاف رواية حديث الصباح والمساء

رواية حديث الصباح والمساء لها أهمية أدبية نظراً لأنها كتبت بأسلوب تجريبي مكثف، وقد نشرت الرواية عام 1987، حيث تعتمد الرواية على طريقة الشرائح القصصية المتراصة عبر ترتيب الشخصيات أبجدياً، وتقديم الأحداث مختصرة ومجزأة تبعًا لنصيب كل اسم في صنعها من دون تكرار أو ملل، وكان أدب نجيب محفوظ في تلك الفترة أقرب للتكثيف في السرد، فهو لا يسهب في وصف نمط حياة الشخصيات وأسباب عقدهم وكل المواقف المؤثرة والانفعالات، بل يميل للتكثيف الشديد في كل هذا، والتعبير عنه بأقل عدد من الكلمات المختارة بعناية.

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

يسرد نجيب محفوظ روايته بعرض كل شخصية فيما يشبه سيرة ذاتية مصغرة أو بروفايل، وطبقًا للترتيب الأبجدي فهي تشبه السرد التاريخي في معاجم الشخصيات والأعلام، وكان يذكر في كل قصة اسم البطل وأبيه وأمه وترتيبه وسط إخوته، ووصف بنيانه الجسدي وصفاته الشخصية، ثم أثر الوضع الطبقي لأسرته وتأثير اختياراتهم (أو إجبار الظروف لهم) على حياته، ثم يعرض نمط تفكيره الديني وتعامله مع واقعه السياسي، ثم معلومات عن عمله وزواجه وخلفته، وأحد محاوراته، وتنتهي القصة بذكر طريقة الوفاة، وتمثل صعوبة على القارئ لتصور الحد الأدنى من التماسك الفني فجميع الشخصيات تقريباً تنتمي إلى ثلاث أسر مترابطة يعزز هذا التشجير العائلي الذي تقطع أوصاله في الرواية وتعتبر سجلاً توثيقياً.

أول شخصيات الرواية
أول شخصيات الرواية

تؤدي تلك التقنية إلى أن تبدأ الرواية بشخصية يتحدث عنها محفوظ هي «أحمد محمد إبراهيم» وهي شخصية تنتمي للجيل الخامس في العائلات محل اهتمام الرواية، أيضًا يتميز أسلوب السرد هذا بتهميش بعض الشخصيات، فمثلاً شخصية يزيد المصري ليست بقوة باقي الشخصيات، لكن ربما مبرر هذا أن هكذا هي الحياة، شخصيات مثل الأجداد تهمش لصالح أجيال أقرب وربما لهذا اختار محفوظ اسم مؤسس عائلة المصري يبدأ بحرف الياء ليقع في آخر الرواية.

على الرغم من صعوبة هذا الأسلوب في بادئ الأمر إلا أنه يعطي للقراء اختيارات كثيرة لنسج خيوط الرواية، ويجعل فهم القارئ يزداد للرواية ووجهة نظره تتغير كلما عرف شخصيات أكثر فيعيد نسج الخيوط طبقًا لفهمه الجديد، وهذا أمر ممتع للكثيرين، وفيه محاكاة للواقع بدرجة كبيرة، فنحن نفهم واقعنا بأسلوب مشابه لهذا ,يكمن سحر رواية حديث الصباح والمساء في أنها رواية عادية فهي ليست غارقة في الرمزية مثل أغلب روايات نجيب محفوظ بل على العكس فلسفة الرواية بسيطة فهي رواية عن الحياة العادية وتفاصيلها عشرات الشخصيات تنكشف لنا حيواتهم الخاصة عبر صفحات الرواية يجمعهم الموت والحب ومحاولات الحياة و سنجد خلال صفحات الرواية: اليساري، وناصري و ثورى وسليل الباشوات الذي يكره ناصر، السعديين، حتى الذي لا يحب السياسة سنجده أيضًا.

لا يقوم محفوظ بعرض التاريخ بشكل مباشر ولكنه يقوم بهذا في سهولة وانسيابية تجعلك تشعر بالخفة وأنك تنتمي لهذا العالم الروائي فالحيرة الدينية التي تنتاب بعض الشخصيات يقابلها الإيمان و التقوى، والخيانة يقابلها الشرف في الصراعات المكتومة بين فروع العائلات مثل عائلاتنا ومحاولات الصعود الأجتماعي مستمرة طوال أحداث الرواية بواسطة العلم أو الثروة العلم فيفشل هذا حينًا وينجح حينًا آخر، كل هذا وفي الخلفية تحضر أحداث السياسية مثل النهضة التي قام بها محمد علي باشا، وأثر هذا على تشتت هوية الكثيرين بين الشرق والغرب مثل داود باشا، والثورة العرابية ورجالها متمثلين في الشيخ معاوية القليوبي (محمود الجندي) وثورة 1919 وثورة يوليو مرورًا بإحتلال الإنجليز لمصر انتهاءًا بالنكسة التي هدمت أحلام جيل بأكمله، وانتصار أكتوبر الذي أعقبها، هكذا رسم محفوظ شخصياته وكتب روايته.

رسم جليلة في رواية حديث الصباح والمساء
رسم جليلة في رواية حديث الصباح والمساء

رغم أن الرواية لا تحتوي على فلسفة معقدة، لكن لم يستطع محفوظ إلا أن يبث حيرته الوجودية التي لا زالت تلازمه طوال أعماله الأدبية بخصوص الغيبيات، فقام برسم ثلاث شخصيات يمثلون هذا الجانب؛ جليلة الطرابيشي (عبلة كامل ) التي قامت بإطلاق زغرودة يوم وفاة زوجها لأن هدية ابنتها العروس وصلت في نفس لحظة الوفاة، ثم أعقبت هذا بالصراخ؛ اتباعًا لغيبيات وعالم من الجن والعفاريت والأولياء، الابنة راضية، وحفيد جليلة قاسم، لم يشر محفوظ أن كل ما تفعله تلك الشخصيات خرافة، فتارة يتهكم على جليلة، وتارة أخرى يخبرنا عن كرامات الشيخ قاسم الحقيقية، في ظني أن محفوظ ظل حتى موته يفكر في الجانب الغيبي وربما لم يحسم أمره قطّ، و لم ينسي تراث الاسلامي فيختار معاوية يمثل الواقع و يقابله جن أو عد يمسي أبو الحسن كناية عن الصراع بين سيدنا علي ومعاوية ,محفوظ لا يتخلى عن الرمزيات بشكل كامل.

وفي حلقة كان ضيفها نجيب محفوظ، نشرت مؤخرا من خلال قناة “ماسبيرو زمان” ، سأله أحد أفراد الجمهور قائلا: “أستاذ نجيب المعروف انك طيب جدا.. بالنسبة لمن يعالجون رواياتك في السينما وبيغيروا فيها انت بتسكت لهم ليه؟”، فرد نجيب محفوظ قائلا: “موقف المخرج من الرواية زي موقف الناقد.. اللي فسّر الكتاب تفسير خاص به على قدر اجتهاده.. وأحيانا بتكون آراء النقاد غير رأي المؤلف فيما كتب.. فالمخرج في نفس الموقف إدى تفسير رابع ويجب إننا نديله الفرصة دي لأن المخرج مش مترجم حرفي ده راجل فنان خالق”. هكذا كان فكر نجيب محفوظ.

الحقيقة أن محسن زايد كان يحب نجيب محفوظ و يعتبر نفسه واحدا من حرافيشه والحقيقة هو أهم وأفضل من قام بتقديم أعمال محفوظ على الشاشة الكبيرة و الصغيرة ، فقد قام من قبل بكتابة سيناريوهات مسلسلات بين القصرين و السيرة العاشورية الحرافيش وقلب الليل وأيوب و مسلسل اللص والكلاب ، ويعتبر محسن زايد أفضل من قدم ترجمة بصرية سينمائية لروايات نجيب محفوظ حيث كتب للسينما وللتليفزيون الكثير من السيناريوهات عن قصص نجيب محفوظ.

محسن زايد وغضبه من رواية حديث الصباح والمساء
محسن زايد وغضبه من رواية حديث الصباح والمساء

لا أحد يصدق أن مسلسل حديث الصباح والمساء حينما عرضه لأول مرة لم يحقق النجاح الذي ينتظره، فكان يعرض بجواره مسلسل الحاج متولي الذي تصدر نسب المشاهدة حينها، ومن المعروف أن نور الشريف كان سيؤدي دور عطا المراكيبي(أحمد خليل) لكنه اعتذر فى اللحظات الأخيرة من أجل شخصية الحج متولي، لم يحقق المسلسل مشاهدات مرتفعة في عرضه الأول ولكن مع عروضه المتتالية تحول لعمل مؤثر في قلوب وعقول المصريين ويعتبر المسلسل حاليا واحد من أهم المسلسلات الدرامية التي تحقق نسب مشاهدة عالية و يصنفه بعض على أنه أحد أجمل الأعمال في تاريخ الدراما العربية.

إقرأ أيضا
جولة أخيرة

يأخذك المسلسل إلى عالم آخر، فأنت تعيش قصص ثلاثة أجيال تولد وتكبر أمامك، تشعر بأنك أصبحت جزءاً منهم، ومرتبط بحياتهم، التي تراها على شاشة التلفزيون، كما أن التمثيل يشبه الطبيعة، فلا تشعر بأنك تشاهد مسلسلاً تلفزيونياً، فالمسلسل يمثل حياة طبيعية التي نرويها لأبنائنا عن أجدادهم وما حدث لهم، رغم احتوائه على القليل من الفانتازيا، إلا أن جزء كبير منه كان حقيقياً،ولكنه يعكس الحياة التي يعيشها أغلب المصريين، فالمسلسل يمثل الحقبة التاريخية في تاريخ مصر، وبالتحديد في منتصف القرن الـ 19 بشكل مبسط بدون الدخول فى التفاصيل السياسية قد تكون مزعجة للمتلقي وحتى ظهور محمد فريد وأحمد عرابي ضمن أحداث المسلسل كان هامشي جدا وفلسفة المسلسل أبسط من الرواية.

محمد فريد وداوود باشا
محمد فريد وداوود باشا

الجيل الحالي لا يعرف شيئاً عن تلك الحقبة الهامة فى تاريخ يسمع عنها فقط في كتب التاريخ و لم يتعلق بمسلسل عند تلك الفترة سوى ذلك المسلسل فيريد أن يعلم شكل الحياة في تلك الفترة، وكيف كانت تشبه حياتنا و لذلك يساعده المسلسل على فهم ما كان يحدث، في المسلسل يستعرض مجموعة من الفترات التاريخية تبدأ من عام 1885 وتستمر حتى قيام ثورة عام1919 وقد اكتفى المسلسل بهذه الفترة القديمة نسبياً، جعله يبتعد عن الجدالات السياسية المعاصرة المرتبطة بحكم الجيش عقب ثورة 1952 والموقف من 1967 وغيرها، وفي هذا الصدد يعرض محفوظ شخصيات قد لا تسمح الرقابة وقتها بوجودها في مسلسل درامي، مثل الشخصيات الرافضة لحكم عبد الناصر، والفرحين بهزيمة 67 وغيرهم، فأحداث الرواية تنتهي في عصر السادات تقريبا، وقد يكون سبب تحديد الفترة الزمنية ليعطي مساحة أوسع للتعمق في الشخصيات.

المسلسل يتبع أسلوب السرد التقليدي على النقيض من الرواية، لكن محسن زايد ينجح ببراعة في تقديم رؤيته الخاصة في كيفية تفاعل الشخصيات مع بعضها، وقد قام بابتكار خطوط درامية لم تكن موجودة بالرواية الأصلية، ونشط بعض الحكايات الجامدة التي لم يهتم بها نجيب محفوظ في النص الأصلي مثل الشخصية التي مثلتها ليلى علوي فقد أشار إليها نجيب محفوظ في سطرين فقط ولم يضع لها أية ملامح فقمت بعمل نسيج درامي متكامل لها وجعلتها تلعب دورا مؤثرا في الحلقات التليفزيونية حيث قامت ليلى بقصة الحب الأسطورية ضمن أحداث المسلسل فجاءت قصة «عطا المراكيبي» كقصة حب كبيرة تجمع بين هانم وصانع أحذية فقير ولكنه مخلص لها، وهكذا قدمت شخصية “عطا المركيبي” نموذجاً بالغ القوة لمقدرات التجاوز الطبقي، يمتلك طاقة غزلية جبارة تكتسح كل الفروق وتغزو وجدان هدى الألوزي فتصارع قدرها ووسطها حتى ترتمي في حضنه في ملحمة عشق أسطوري يفجر أجمل طاقات الإنسان على اختراق حاجز المال والعمر والتقاليد الاجتماعية، وكذلك حكاية زواج داود باشا (خالد النبوي) بالجارية جوهر التي تشغل متابعي السوشيال ميديا تلك الأيام ، واستغل محسن زايد العقدة الشخصية لـ«داود باشا» التي لمح لها محفوظ باقتضاب، في كتابة شخصية الرجل التائه بين حياة الباشوية والتي تربى عليها في بعثة باريس، وبين حياة أهله الفقراء البسطاء.

حكي السيناريست محسن زايد إنه قرأ رواية نجيب محفوظ الأصلية أكثر من 20 مرة حتى استقرت الفكرة في رأسه فبدأ التخطيط للعمل حيث أمضى في كتابته عامين كاملين في منزله فى الاسكندرية حيث قام بإستخراج 67 شخصية من الرواية وتحولوا من خلال السيناريو إلى 130 شخصية بعلاقاتها المختلفة مع بقية الشخصيات الأخرى حيث جعلت لها حواديت درامية مثيرة جدا، فشخصيات الرواية قد تم إعادة خلقها وتطويرها فالمسلسل ينسب إلى إبداع محسن زايد بجانب نجيب محفوظ حيث تعتبر أحداث المسلسل من صنع محسن زايد الذي شرب روح محفوظ وعرف كيف يكمل عمله.

الكاتب

  • محفوظ محمد التهامي

    حاصل على درجة الدكتوراه ومهتم بالفنون بشكل عام والبحث في التاريخ وصدرت له العديد من الكتب

    كاتب نجم جديد






ما هو انطباعك؟
أحببته
5
أحزنني
0
أعجبني
3
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان