حرب أكتوبر .. ذكريات تستعصي على النسيان (1–9) قبل العبور بساعات
-
مصطفى بدر
بطل من أبطال الدفاع الجوي في حرب أكتوبر المجيدة .. لواء أركان حرب سابق بالقوات المسلحة المصرية
يحتل نظام سام 2 المكان الأمثل في قلبي وعقلي وما زلت أذكر تفاصيلها حتى الآن، إنه من اشتبكت به مع العدو وأسقطنا طائراتهم، ورغمًا من عملي في أنظمة عديدة وقيادتي لوحدات أخرى وخدمتي في كل أنحاء الجمهورية وسفري إلى دول عديدة، ستظل مدينة بورفؤاد هي أحب المدن والتي تمركزت بها الكتيبة 431 خلال حرب أكتوبر.
كتبت هذه اليوميات من فترة وأعيدها اليوم لمن لم يقرأها، وهي بعين وأحاسيس وتجربة شباب مصري لم يشغل تفكيره سوى تحقيق هدفه، والذي لم يكن مالا أو جاهًا أو سلطانًا، كان هدفه هو تدمير أي طائرة معادية تحاول الاقتراب ومهاجمة بورسعيد.
يوم 5 من أكتوبر 1973م .. مدرسة الراعي الصالح في بورفؤاد
أنهينا التهام وجبة الإفطار الرمضانية بسرعة بحثًا عن التدخين فلقد مر اليوم بطيئًا على غير العادة فطائرات المشروع لم تقلع كما قالوا واستمر رفع الحالة، كل شيء هادئ وها نحن نستمر في الموقع لمدة قاربت على الشهر، ولذا قرر الطاقم القديم والخالي من الخدمة قضاء السهرة ببورسعيد «مصطفى درويش ضابط الهوائيات، مجدي يسري ضابط القواذف، وأحمد فؤاد قائد فصيلة الضبع الأسود، ومراد يوسف ضابط إرسال أوامر التوجيه».
توجهنا سيرًا على الأقدام وأخذتنا المعدية غربًا في زمن ست دقائق ونصف، وتسامرنا ولم يكن أحدًا غيري من المجموعة متزوجًا فشبعت تريقة حتى عدنا إلى المدرسة بعد وجبة سحور شهية من المشويات وعلى البوابة وجدت عربة قائد الكتيبة في الانتظار وأبلغت بأن المقدم منير ينتظرنا جميعًا وسعت تاريخه في الموقع الحربي.
يوم 6 أكتوبر 1973م .. الموقع الحربي – الكرانتينه – بورفؤاد
الساعة 300 (الثالثة فجرًا)
أشرفت الساعة على الثالثة فجر السادس من أكتوبر عندما أعطيت تمام للقائد بأننا جميعا متواجدين وكان القائد قد أمضى ليلته بقيادة اللواء، وقال:
– مصطفى .. اعملوا المين باراتمر .. عايز الكتيبة مظبوطة على الشعرة.
ـ فيه حاجة يا أفندم .. طائرات المشروع حتطلع بكرة ؟!
– خلص یا مصطفى .. منتظر تمامك.
لم يكن ذلك غريبًا على المقدم منير فهو هادئ الطباع، قليل الكلام، وبدأنا وانتهينا في ساعة زمن، وبطلنا المعدات وهي بحالة فنية كأنها خارجة من المصنع.
وصلينا الفجر جماعة وأشفقت أن أقوم بإيقاظ المقدم منير، ودخلنا جميعا للنوم، وحاولت بشتى السبل أن أنام ولكن النوم رفض زيارتي، ناديت على محمد البرل؛ وكان مستيقظا وسألته : –
– معاك حته جراية ؟.
ففهم أن مقصدي هو أن أتوجه للصيد، فسحبت سنارتي وتوجهنا إلى الحوض القريب من الكتيبة بـ 300 متر ليس إلا، ولم يكن نور الصبح قد شاع وكانت هناك ظلمة خفيفة تغطي الجو مع قليل من شبورة الصباح، وبدأت في الصيد ومع أول شرغوشه وكنت أرتدي سترة بدون كتافات أو رتب، سمعت قدما ثقيلة تقترب:
– ممنوع الصيد هنا
– مين إنت وبتعمل إيه هنا ؟
ــ أنا ضابط أمن كتيبة المدفعية اللي فتحت البارح هنا.
ونظرت خلفي ومع إشراقة الصباح وجدت أن المسافة بين الحوض والموقع الحربي مليئة بالمعدات المغطاة بشباك التمويه، قمت واقفًا وعرفته بنفسي، وتصافحنا وأدركت في قرارة نفسي أن هناك شيء غريب وعليّ أن أحصل على ساعتين من النوم لزيادة القدرة على مواجهة ما هو آت.
الساعة 600 (السادسة صباحًا)
ألقيت بظهري على سريري المواجه لباب الغرفة الطويلة والتي كنا جميعًا ننام فيها وهي جزء من الموقع النصف محصن وتتحمل ما يتحمله، وكان الجميع غارق في النوم عدا من كان منوبًا بالغرفة.
وانتابتني مشاعر عدة
هل هو المشروع ؟
أم أنها الحرب ؟
«حرب مين ؟، بالنضارة ممكن أشوف العلم الإسرائيلي اللي في نقطة راس العش، يعني الهاون بتاعهم ممكن يِكَوِّم الهوائيات، صحيح عملنا البدع بشباك التمويه وغيرنا الشكل، وساتر الشكاير كفاية حواليها».
تذكرت ماحدث بيني وبين اللواء حلمي عفيفي قائد الفرقة بعد تمام سيطرتنا على الموقع في 17 أغسطس 1972م وبعدما شكرنا على سرعة ودقة السيطرة الموقع:
– فيه حد عنده أسئلة ؟
وأعطاني الإذن:
ـــ سيادتك المسافة بينا وبين نقطة رأس العش 5 كم ……
لم يدعنى أكمل:
ـــ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وهب واقفًا:
ـــ انت بتشتغل ايه ؟
ـــ ضابط توجيه يا أفندم
ـــ بتتكلم على العدو الأرضي !، دا له ناسه .. إنت شغلتك العدو الجوي، قدامي على الهوائيات وريني العدو الجوي هيجيلك منين.
وأخذت الأفكار تدور في رأسي، حتى تشكيل قتال اللواء، وكيف أنه هش، وكيف أن قدوم العدو من فوق بحيرة المنزلة سيمثل مشكلة في الكشف .. و.. و.. و.
سقطت في النوم وولدي علي في مخيلتي.
الساعة 1330 (الواحدة والنصف ظهرًا)
ــ يا أفندم يا أفندم .. إصحى .. المقدم عايزك في الكابينة .. بجالي (بقالي) ساعة بنصحي فيك .. أجوله (أقوله) إييه ؟
ــ الساعة كام يا وله ؟
ــ تيجي تلاتة ولا أربعة.
قمت واقفًا ونظرت في الساعة وجدتها تخطت الواحدة والنصف وقلت:
ــ فيه مَيَّة يا محمد ؟ .. جهز الصابونة والمَيَّة لغاية ما آجي .. استناني على باب الدوشمة.
توجهت لقضاء الحاجة في الأدبخانة الميداني الموجودة في الاتجاه الشرقي وعدت إلى الدشمة وبعدما أنهيت الوضوء، أحسست بثقل رأسي فقررت أن أغسلها بالماء والصابون.
بدأ في ترغية الصابونة على شعري الكث الطويل، وإذ بي أسمع صوتًا لم أسمعه منذ زمن طويل.
إنه صـوت طـــائراااات !!!!
رفعت رأسي فإذا بتشكيل من الطائرات السوخوي المصرية فوق رأسي مباشرةً.
(يُتْبَع)
الكاتب
-
مصطفى بدر
بطل من أبطال الدفاع الجوي في حرب أكتوبر المجيدة .. لواء أركان حرب سابق بالقوات المسلحة المصرية