حكايات مصريين غربتهم لقمة العيش فالتهمهم إعصار دانيال
كانت الليلة الأسوأ في حياتهم، لتصبح أرواحهم غير مكتملة وواقعهم أسوأ من أي حبكة درامية، عاد أولادهم محملين على انعاش بدل من السير على الأقدام وبأيدهم حلوى المولد لرسم البهجة على وجه أطفالهم الذين لم يرهم منذ سنوات، وغيرهم أطفالًا عادو لتدفن أحلامهم معهم، بعدما قرروا السفر للبحث عن فرص عمل جديدة تضمن لهم و لذويهم حياة كريمة بعدما ضاقت بهم سُبل المعيشة في بلادهم، ليتركوا وجوهًا تحمل في جعبتها مزيدًا من الأحزان، لتفقد قرية الشريف التابعة لمركز ببا بمحافظة بني سويف في صعيد مصر 74 شخصًا من أبنائها في الفيضان الذي خلفه إعصار دانيال بليبيا.
“الميزان” يسرد حكايات 3 أبناء من قرية الشريف الذين لقوا مصرعهم في الفيضانات التي شهدتها ليبيا تشابهت روايات في بدايتها وحتى نهايتها لكنها تختلف في بعض أحداثها الداخلية.
حلوى المولد
محمد ربيع عسقلاني شاب ثلاثيني، قرر ترك بلاده قبل سنتين بعدما ضاقت به سُبل المعيشة به، لتكن ليبيا هى وجهته الجديدة بصحبة عدد من أبناء قريته الذين قرروا ترك بلادهم لنفس الأمر، كان تحسين المعيشة وتأمين مستقبل لأولاده هو الهدف الأول والأخير.
قبل عدة سنوات تزوج “محمد” وأنجب خمسة أطفال -4 بنات وولد- أكبرهم في الصف السادس الإبتدائي وأصغرهم يبلغ من العمر عام ونص العام، زادت عليه المسؤوليات ووظيفته التي كان يعمل بها لا تسد كافة احتياجاته ليقرر اتخاذ قرار صعبًا عليه وعلى أسرته وهو السفر وتركهم ولكن كان تأمين مستقبلهم وتوفير حياة كريمة لهم جعله يربط على قلبه ويسافر بصحبة عدد من أبناء قريته.
في العام 2021 سافر “محمد” إلى ليبيا مودعًا أسرته على أمل اللقاء مرة آخرى، لم يتخيلوا ذات يوم بأن هذا الوداع سيكون الأخير، ظل يعمل بليبا لمدة عامين وقبل عدة أيام تواصل مع أفراد أسرته وأخبرهم بأنه يستعد للنزول إلى مصر للاحتفال مع أسرته بالمولد النبوي الشريف وأيضًا لرؤيته أطفاله الذي اشتاق قلبه لهم وخاصة ابنته الصغرى حيث كانت زوجته لا تزال حامل بها في شهرها الرابع عندما سافر إلى ليبيا.
ولكن ليلة وضحاها كانت كفيلة بأن تقلب موازين وترتيبات تلك الأسرة ليعود إلى زوجته وأطفاله محملًا على النعش بدلأ من أن يأتي سيرًا على قدمه حاملًا حلوى المولد التي وعد أطفاله بها للاحتفال معهم ولقضاء بعض الوقت بصحبتهم قبل العودة مرة آخرى إلى ليبيا لاستكمال الهدف الذي سافر من أجله، ليترك خلفه زوجة مكلومة على وفاة زوجها وأطفالهم تيتموا قبل أن يروا الحياة.
ووفقًا لمكتب المنظمة الدولية للهجرة في ليبيا فإن حصيلة وفيات المصريين المقيمين في ليبيا جراء العاصفة دانيال بلغ 250 حالة.
وبلغ عدد الأجانب في ليبيا نحو 750 ألف أجنبي نصفهم من المصريين والذي يقدر عددهم نحو 400 ألف مصري في ليبيا منقسمين لـ 300 ألف مصري في شرق ليبيا والباقي موزعين في أنحاء ليبيا، وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للهجرة.
عودة بالكفن
قبل عدة سنوات قرر محفوظ وهب الله السفر إلى ليبيا بعدما ضاقت عليه الدنيا بما رحبت في إيجاد فرصة عمل في قريته فبعده عن التعليم جعل فرصة حصوله على وظيفة ضعيفة ليجد أن السفر هو الحل أمامه.
ودع “وهب الله”، أسرته المكونة من زوجة و3 أطفالهم كبيرهم في العاشرة من عمره، ووالديه وأشقائه وجمع متاعه وسافر إلى ليبيا بعدما وجد فرصة عمل في حمل الطوب إلى المباني بدرنة.
قبل 8 أشهر نزل الرجل الثلاثيني إلى قريته في زيارة لأسرته بعدما اشتاق لهم ظل معهم عدة أيام ثم عاود السفر مرة أخرى فالإجازة التي حصل عليها قد انتهت وكان لا بد من العودة حتى لا يفصل من وظيفته، تقول شقيقته “للميزان”
قبل حدوث الفيضانات في درنة بليبيا بيومين وتحديدًا الساعة الثانية بعد منتصف الليل اتصل “وهب بالله” بزوجته وأخبرها بأنه سيعود إلى القرية في شهر أكتوبر المقبل بعدما تمكن من الحصول على إجازة لرؤية أطفاله:” كلم مراته وقالها أنه هيرجع البلد في شهر أكتوبر علشان ولاده نفسه يشفهم”.. تقول شقيقة “وهب الله”
بعد حدوث الفيضانات وانتشار الأخبار بوجود قتلى ومصابين من بينهم مصريين تابعت أسرة “وهب الله” الأخبار على أمل ألا يكون ابنهم من ضمنهم، وفي يوم الثلاثاء انتشرت قوائم بأسماء الموتى المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي أسرعت أسرته في رؤيتها ليجده اسمه من ضمنهم، لم يصدقوها وظل بداخلهم أمل أنه على قيد الحياة حاولوا الأتصال به عدة مرات لكن دون جدوى لتفترس مخيلتهم أفكار مظلمة حول مصيره.
وبعدما أعلنت الحكومة المصرية عن عودة جثث المصريين الذين توفوا في ليبيا إلى مصر من أجل دفنهم، ليجدوا جثمانه بينهم، ليتحول أملهم إلى سراب، وتفتح أبواب بيوتهم على مصراعيها لتلقي العزاء ليقف الرجال في صف مستقيم ويكتظ المنزل بالنساء الذين يتشحن بالسواد ويفترشن الأرض.
دفن أحلام طفولته
لم يكن وفاة “وهب الله” هو الحزن الوحيد الذي يجتاح منزل عائلته بل وفاة ابن شقيقه وإدراج اسمه في قوائم الموتى في ليبيا نتيجة الإعصار زاد على الأسرة معاناة وحزن جديد، لتنخلع القلوب وتهتز الأرض من شدة البكاء والحزن.
سافر ياسين محمد وهب الله صاحب الـ 15 عامًا إلى ليبيا قبل عدة أشهر من أجل مساندة والده صاحب الـ 54 عامًا بعدما أصبح غير قادر على العمل في تلبية احتياجات المنزل وسد احتياجات اشقائه الخمسة.
“ياسين سافر علشان يساعد والده وولدته وأخواته البنات الأربعة وأخوه الصغيرة علشان والده مبقاش قادر يشتغل زي الأول وكان لازم حد يساعده فقرر ياسين أنه يسافر يشتغل علشان يساعد في جواز أخواته البنات”.. تحكي عمة ياسين “للميزان”
بدل من أن يعود ياسين إلى أسرته حاملًا أموالًا لسد احتياجات أسرته ولمساعدة والده الذي أصبح العصا التي يتوكأ عليها، عاد محملًا على نعش ليزرع حزن بداخله عائلته لا يمحى وتدفن معه أحلامه طفلته التي حملها مع متاعه وهو مغادرًا بلاده.
تسبب إعصار دانيال الذي خلف فيضانات في حزن لا ينتهي لتطفي البيوت انوارها وتبهت ألوانها وكأنها تأخذ العزاء في رحيل أصحابها، لتعيش أسرة محمد عسقلاني ومحفوظ وهب الله وياسين محمد وغيرهم مساءة أحاطت بيهم على حين غرة.