حكاية آية (7) : (أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ)
-
عمرو عاشور
روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...
كاتب نجم جديد
استقبل أهل يثرب الرسول وأتباعه من المهاجرين بترحاب واسع ومحبة صادقة، وفتحوا لهم بيوتهم، وشاركوهم في الطعام والشراب، ووفروا لهم سُبل الرعاية حتى أن الرسول كان يهلهل فرحاً: “الله.. الله بالأنصار”.. فأُطلق عليهم (الأنصار) لنصرتهم تلك..
في تلك الأجواء العامرة بالطمأنينة والمحبة شرع الرسول في تأسيس مدينته، المدينة المنورة التي ستخرج منها الرسالة لتعبر مدن العالم. ولكن، قريش لن تترك النبي محمد وأتباعه ينعمون بالراحة والاستقرار. لذا كانت قريش تضغط على القبائل المحيطة وتدفعهم لقتال النبي محمد وأتباعه من الأنصار والمهاجرين. كما أنهم تعاونوا مع يهود يثرب في الخفاء.
في المقابل لم يكن هناك رد فعل من المسلمين، فآيات الجهاد لم تنزل بعد، والآيات المكية لا تحرض على العنف حتي ضد الكافر (لكم دينكم ولي دين) كمثال..
في ظل تلك الأزمة المُربكة تنزلت أول آيات تدعو للجهاد (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّـهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)..
هكذا تحول الأمر من تحمل للأذي والصبر على تنكيل العدو إلى الجهاد والقتال..
وقتها علم رسول الله بشأن قافلة مُحملة بأموال طائلة في طريقها إلى قريش يرأسها معاوية بن أبي سفيان، ويحرسها أربعون رجلاً.. وكان النبي تحت قيادته أكثر من ثلاثمائة رجلاً.. فبدت للنبي الفرصة مناسبة ليقطع الطريق على القافلة ويستولي على أموال قريش، وبذلك تكون الضربة مزدوجة: إفقار قريش واسقاطها في أزمة إقتصادية من ناحية، وتوفير المال اللازم لتأسيس المدينة الحديثة من ناحية أخرى..
وعلى الفور خرج النبي مع الأنصار والمهاجرين لمواجهة القافلة. ولكن، أبي سفيان عرف بشأنهم.. فقد كان داهية فعلاً.. وكان يتابع أخبار النبي محمد وأصحابه، وحين وصل بدر سأل هناك “هل رأيتم أحد؟”.
فرد رجل: “رجلان”.
فسأله معاوية: “أريني مناخ ركباهما؟”.
فراح يفحص بعر الأبل (براز الأبل) حتي قال لنفسه: “والله.. لـ هي من علائف يثرب”.
فاتخذ طريقاً مختلفاً، ويُقال أنه طريق الساحل. ثم أرسل ضمضم بن عمرو إلى قريش لينبأهم بأمر النبي محمد ورجاله.. فدخل ضمضم مكة، وقد شق جلبابه، وجدع أنف بعيره.. وراح يصيح: “يا معشر قريش، اللطيمةَ، اللطيمةَ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها النبي محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوثَ، الغوثَ”.
فاجتمع أهل قريش وقد تملكهم فزع عظيم على أموالهم، وقالوا: “أيظن النبي محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا، والله ليعلمن غير ذلك”.
وبدأوا في تجميع جيش قوامه ألف وثلاثمئة مقاتلاً تحرك نحو بدر ليواجه ثلاثمئة مسلم.
على الجانب الآخر.. تلقي الرسول خبر جيش قريش أثناء تقدمه نحو بدر.. هنا، كانت الحيرة، والمأزق أيضاَ.. أولاً: خروج النبي محمد وأصحابه كان بهدف الاستيلاء على قافلة لا يحرسها غير أربعون رجلاً.. والآن هم في مواجهة ألف وثلاثمئة من خير رجال قريش وأمهرهم في القتال..
ثانياً: العودة إلى يثرب بمثابة رسالة ضمنية بالهزيمة والانكسار.. فما العمل إذن؟
واجتمع النبي بأصحابه، وقال” “أشيروا عليَّ أيها الناس”.
وقد أدرك الصحابي الأنصاري سعد بن معاذ مقصد الرسول، فنهض قائلاً: “والله لكأنك تريدنا يا رسول الله”.
فقال الرسول: “أجل”.
قال: “لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصَبْر في الحرب، صِدْق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله”.
وقام سعد بن عبادة، فقال: “إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا”.
فقال الرسول: “سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم”.
وساروا حتى وصلوا إلى بدر، وبدر بئر يقع بين مكة ويثرب، وهو مقصد الراحة للمسافرين، وحين نزلوا ببدر، تحديداً عن أخر عين بالبئر تساءل الحباب ابن منذر: “يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟”.
قال: “بل هو الرأي والحرب والمكيدة”.
قال: “يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغور ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون”.
وقد كان..
تلك المشورة كانت مدخلاً للاستفادة الكاملة من طبيعية المكان الجغرافية، ابتداءاً من تسوية صفوف الجيش حيث طلب النبي من أصحابه أن يستوا في صفوف بحيث تكون ظهورهم للشمس.. ثم جاءت السماء لتعلن عن دعهما.. (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ)..
فتنزل المطر الخفيف على الجيش لتسود الثقة والطمأنينة بين الصفوف التي أخذت في النعاس المتبادل، وهي منحة ربانية أخرى بعثها الله في نفوس المقاتلين..
قال أبو طلحة: “كنت ممن أصابه النعاس يوم بدر، ولقد سقط السيف من يدي مراراً، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحجف”.
وجاءت المعركة ووصل جيش قريش إلى بدر، وخرج من بين صفوف الجيش الأسود بن عبد الأسد المخزومي قائلاً: “أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه”.
فـخرج له حمزة عبد المطلب فقتله بضربة وأخري وأسقطه بحوض الماء.. وهنا عتبة ابن ربيعة وشبية ابن ربيعة والوليد ابن عتبة فطلب ثلاثة رجال من الأنصار الإذن من النبي للخروج. غير أنه أرسل عبيدة بن الحارث وحمزة وعلي فتقاتلوا حتى قتلوا عتبة وشبية والوليد..
وبدأت المعركة، وقد اعتاد العرب في معاركهم على إتباع أسلوب الكر والفر، أي الهجوم على العدو فإن صمد فروا لاستعادة الأنفاس ثم عادوا للهجوم مرة أخرى وهكذا. ولكن، النبي اتبع استراتجية جديدة حيث تسوية الصفوف والثبات وعدم الاشتراك في القتال إلى بعد اقتراب العدو تماماً.. كما أن السماء ساندت جيش المسلمين فتنزلت الآيات: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ)..
وكذلك تنزلت الملائكة لمحاربة جيش قريش وقتالهم كما أخبرهم الله وأخبر المؤمنين به: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)..
يقول ابن عباس حول تلك الوقعة “بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: ” أقدم حيزوم “ إذ نظر إلى المشرك أمامه، فخر مستلقياً. قال: فنظر إليه، فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع. فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله . فقال: صدقت ، ذلك من مدد السماء الثالثة ، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين”.
ولكن، هل استمر دعم السماء لجيش المسلمين وأتباعه؟ وهل شارك الملائكة وحيزوم في معارك أخرى؟ هذا ما سنعرفه مع حكاية أخرى.
الكاتب
-
عمرو عاشور
روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...
كاتب نجم جديد