أنا من ملوي

أنا من ملوي.. ثم يتبعها فخر.. أو ترقب، خصوصًا لو كان السائل “كمين حكومة”.
المدينة التي يطلقون عليها جهلًا أحيانًا في وسائل الإعلام “ملاوي”.. لكن ليس مهمًا، طالما أنك أصلًا تعرف “تونة الجبل” و “تل العمارنة” والإشمونين” بالاسم فقط.. فلن يفرق معها إن كنت تنطقها “ملوي” أو “ملاوي” .. ثم يعني إيه “ملوي أصلًا؟
تركتها في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، زاحفًا بفرح إلى العاصمة.. ملوي أي حد عاقل كان لازم يسيبها في تلك الفترة ويروح أي داهية، مؤكد الحال هناك سيكون أفضل مما كان عليه هنا.
أنقاض مدينة عظيمة طوال تاريخها، وحتى أواخر القرن العشرين.. ملوي اللي كانت ثاني أهم وأكبر مدن مصر في التجارة بعد مدينة المحلة الكبرى.. ملوي اللي انفصلت جغرافيا عن محافظة أسيوط ، وقبل ما تحلم تبقى محافظة وتكيد “المنياوية” حولتها موجات الإرهاب الأسود لمدينة كئيبة تسكنها الأشباح والدقون وقوات مكافحتها.. ملوي اللي بيحكمها أمن الدولة منذ انقلاب إخناتون.. مدينة الباشوات والقصور العظيمة، تحولت لمقلب زبالة كبير وشوارع لا تصلح للسير على الأقدام حتى.. ولكنه أمر عادي خلاص.
بلد عجيبة.. وفي قول أخر “بلد زينب”.. اللي ماحدش يعرف “زينب” دي تبقى مجرد مومس.. ولا فعلًا كانت مناضلة تستغل مهنتها في إغواء العساكر الإنجليز الهايجين في القطارات وتصطادهم لقتلهم في الزراعات المنتشرة على طول الخط.
ملوي اللي كان فيها زراعة القصب في التسعينيات أخطر من زراعة البانجو، لأن غيطان القصب الملواني غير أنه أحلى قصب ممكن تشربه في حياتك.. إلا إنه كان المكان المفضل لاختباء الإرهابيين.. المدينة اللي اتحط عليها لأن بها أغلبية مسيحية، واتعاقبت بالجهاد المسلح من الجماعات المتشددة من جانب، ومن أمن الدولة من جانب تاني.. ملوي اللي فيها المطافي لازقة في مطرانية “ملوي وأنصنا والإشمونين”.. أنصنا اللي بدأ منها التقويم القبطي للشهداء بالدم في عصر الأمبراطور ديقلديانوس.
ملوي المدينة اللي فيها جامع العرفاني وشارع ماريا القبطية بنت أنصنا، وكنيسة العدرا اللي اتعرضت لهجمات إرهابية أكتر من عدد الطوائف المسيحية في المدينة وقراها ال86..
ملوي اللي كان فيها كنيسة اسمها “كنيسة الرب” فوضع المؤمنون من الدقون نقطة فوق حرف الراء كدعابة، فاضطرت الكنيسة لتغيير الاسم.. ملوي اللي شرق نيلها قرية “البرشا” موطن الملك العظيم “خوفو” باني الهرم الأكبر.. وبلد سحرة فرعون النبي موسى.. وغرب نيلها “قرية البياضية” اللي كانوا بيعايروا أهلها بتربية الخنازير، فخرج منها فريق “كورال غنائي” لف العالم كله يغني للمحبة والسلام وحب مصر.. والكلام الحلو ده.

كان من أهم أسباب الهجرة من ملوي، للي زي حالاتي، أنه لا ده مافيش سينما عندنا”.. فلقد تحولت سينما “ملوي بالاس” إلى مقر لأمن الدولة في التسعينيات بعد إغلاقها أصلا حرصا على مشاعر الإرهابيين.. سينما “بالاس” التي شهدت دخولي لأول مرة السيما لمشاهدة فيلم “ابي فوق الشجرة”- أنا مش عجوز ولكن السينمات الفقيرة كانت تعرض هذا الفيلم حتى منتصف التسعينيات- ودخلتها للمرة الثانية للسؤال عن أحد أقاربي المقبوض عليهم بالخطأ “أيام الإرهاب”.. هذه الأيام السوداء اللي كان فيها المسيحي الملواني بيخرج من بيته وهو فعلا مش ضامن يرجع تاني.. ولو رجع يبقى قبل الحظر.. الحظر اللي جربناه قبل 25 يناير بسنين طوال.
البلد اللي ماحدش عرف إن فيها متحف غير لما اتسرق في 30 يونيه 2013.. ومحدش بيسمع سيرتها غير لما تحصل مصيبة، طائفية في الغالب.. وبتدفع تمن وجودها هنا.. بالتركيبة السكانية العجيبة دي.. قرى مسيحية بالكامل.. ثم دير.. ثم قرية بالكامل مسلمين.. حتى لو كان اسم القرية ” أم قمص”! .. وفيها الأثار بالكوم.. والدشم الأمنية على يمينك وشمالك..
تركتها في أواخر التسعينيات.. في المرحلة الثانوية.. مدرستني الثانوية الجديدة اللي أنشئت خصيصا لتعليم “القرويين” أمثالي وابعادهم عن أبناء المدينة اللي بيدرسوا في “الثانوية العسكرية” اللي بتبص على بيت “خالد الاسلامبولي” قاتل السادات. مدرستي الثانوية اللي حظها الأسود أنها كانت على مدخل ملوي من ناحية النيل وقرى الشروق، فصارت معسكرا لقوات مكافحة الإرهاب ومدرسة ثانوي برضه في نفس الوقت .
البلد اللي شراء الحشيش والأفيون فيها أسهل من شراء زجاجة بيرة.. فالبيرة حرام.. والله أعلم.. واللي أهلها بيمطوا في الكلام كأنهم بيغنوا مش بيتكلموا.. أو يمكن لأنهم مش مستعجلين.. هايروحوا فين؟.. طول ما هما هنا في “ملوي”
*يرجع أصل كلمة “ملوي” إلى كلمة “مرو” بالهيروغليفية أو كلمة “مري” بالقبطية” وكلاهما تعني “مستودع الأشياء” وحرفت الكلمة إلى “ملوي”.