حكايتي مع الضاحك الباكي
-
عمرو عاشور
روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...
كاتب نجم جديد
تُعد مهنة السيناريست من أصعب المهن في الشرق الأوسط، ليس فقط لأنها تعتمد على الموهبة بشكل كبير، وحريفة الكتابة المتفردة للشاشة سواء الصغيرة أو الكبيرة؛ ولكن، أيضًا، لصعوبة الإنتاج وتحويل الورق إلى واقع مرئي.
اقرأ أيضًا
الضاحك الباكي .. دراما تأخرت ٣٠ عاما على الأقل
تلك العملية المكلفة والمعقدة قد تجبر السيناريست على كتابة عشرات الأعمال، والمشاركة في عشرات أخري، من المحاولات الفاشلة، دون نتيجة تُذكر.
اقرأ أيضًا
أخطاء الحلقة الأولى من مسلسل الضاحك الباكي “الغيطي يكرر أغلاطه”
وبالطبع لكل محاولة أو تجربة حكاية أو ربما حكايات في الكواليس، بعضها يظل سرًا نظرًا لما تتضمنه من أحداث عالقة بصُناع العمل، والبعض الآخر يبات كتجربة نتعلم منها ونستفيد.
والحقيقة، فإن تجربة الريحاني تعتبر من التجارب الثرية التي مررتُ بها، والتي استفدت منها على النحو العملي والنظري.. والأهم، توضيح رؤية صناع الدراما والفن والوقوف عند أسباب فساد تلك الفنون.
في البداية كانت مكالمة هاتفية من المخرج سعيد حامد، وقتها كنتُ أعكف على كتابة سلسلة مقالات الحلاق والشيخ لجريدة المقال المصرية، وكنتُ منشغلاً بتلك السلسلة لدرجة أنني توقفت عن الكتابة الأدبية والسينمائية، خاصة بعد المحاولات المتواصلة لإنتاج عمل فني سينمائي أو درامي.
سعيد حامد مخرج متميز فعلاً، منذ تعارفنا الأول بمنزل الصديق المشترك العزيز لطفي لبيب وحدثت بيننا – أقصد سعيد وأنا- كيمياء خاصة جدًا، ربما لأنني أميل إلى الكوميديا بطبعي، وربما لأنني تربيت على أفلامه من صعيدي في الجامعة الأمريكية وصولاً إلى يا أنا يا خالتي.
وبدأنا سويًا نبحث عن مشروع فني جديد، ولكن ظل الإنتاج يقف كصخرة قوية ترفض التزحزح حتى احتوانا اليأس؛ وبعد مرور عدة أعوام جاءني منه مكالمة: “عمرو عايزك .. عدي عليا في المكتب”.
في مكتبه بالمعادي صرح أنه سيدخل عمل جديد يسرد قصة نجيب الريحاني، وأشار إلى أن البطولة ستكون من نصيب النجم أشرف عبد الباقي.. كنتُ فرحاً بصدق، فـ صديقي الذي يعاني من تجاهل المنتجين لمخزونه الفني عرفوا قدره أخيرًا، وعوضه القدر بعمل عظيم عن شخصية عظيمة.
ولكن، تلك الفرحة طعنت في مقتل حين أخبرني، وقد تقلب وجهه متضايقًا، أن العمل من كتابة الغيطي.. لم أكن مدركاً سبب صدمته، ولا سبب وجودي.. فـ الورق موجود والمخرج والبطل والمنتج.. فما لزمتي أنا؟.
وهنا اكتشفت أن الورق لم يعجب سعيد أبدًا.. أجل هو في حاجة للعمل، غير أنه سيضاف إلى رصيده الفني بلا شك، وأي بادرة فشل ستنهي مسيرته الفنية بالضرورة.
وهنا جاء عرضه: “أشتغل على الحلقات وحسابك عندي”، هي خدمة لصديق، وتجربة مع فنان كبير أعتبره مؤسس الكوميديا الأول نجيب الريحاني.. إذن.. هي متعة مزدوجة..
ولكن الورق كان كارثة على كافة المستويات.. مغالطات في السيرة الذاتية الحقيقية للفنان وأخطاء في معلومات تاريخية بلا حصر، وحوار بلاستيكي لا يخرج من شخصيات حية.
فما العمل؟
واقترح سعيد أن ننسي ما تم كتابته، وأن ننطلق من بداية صحيحة وقوية، فلم نجد أصدق أو أمتع من مذاكرات نجيب نفسها، والتي أشار في بدايتها عن رغبته في تعريف جمهوره بمشواره الفني بعيدا عن حياته الأسرية الشخصية.
وإن كانت المذكرات لم تغفل بعض الجوانب الشخصية الهامة في حياة الأسطورة كـ صداقاته وعلاقته بأمه وأساتذته.
تلك المذكرات كانت مدخلاً.. ليس فقط لعالم الريحاني الغامض والبعيد ولكن، كذلك، لحقبة تاريخية هامة وفارقة على شتي الجوانب: الفنية، السياسية، الاجتماعية.. إلخ..
وكان التحدي حين تشكك المنتج في قدراتنا، فطلب قراءة أول عشر حلقات قبل أن يفتح باب الإنتاج، أذكر أن المخرج الكبير سعيد حامد أكد عليّ حينها بأنه سيعلمني طريقة تجعلني أكتب الحلقة في ثلاثة أيام..
ولكن ما حدث غير ذلك.. فـ المذاكرات والتي شكلت أمامي معالجة ثرية ومفتوحة دفعتني لكتابة حلقة كل يوم..
مع الصباح الباكر أكتب الحلقة وانتهي منها في الرابعة عصرًا تقريبا، ثم أذهب إلى سعيد أقرأ الحلقة فيعدل منها ويضيف اقتراحاته، ثم نتجه إلى مكتب أشرف عبد الباقي بالمقطم لقراءة الحلقة مرة ثانية مع التعديلات الجديدة.
وهكذا.. مرت الأيام حتي انتهينا من العشر حلقات.
ورغم ذلك لم أستطع التوقف، كنتُ مستمعًا بالتجربة والمعايشة إلى أقصي حد.. وأثناء كتابة الحلقة الخامسة عشر كلمني سعيد: “عمرو وقف كتابة.. الغيطي رفض الورق.. ولا أنا ولا أشرف هندخل العمل دا”.
صدمة أخري.. كنا قد تعايشنا مع العمل تمامًا.. حتى أن عبد الباقي بدأ في الاستعداد للشخصية.. وأكثر ما أحززنا أن تلك الحقبة الفنية باتت واضحة لنا تمامًا، بموسيقاها وحكايتها وأزمتها الصغيرة والكبيرة.
حط علينا إحباط عظيم، غير أنني لم أستسلم لهذا الإحباط غير ساعة لا أكثر.. بعدها اقترحت أن نقدم عمل يُخلد كل أبطال الكوميديا.. من نجيب الريحاني إلى جيل هنيدي في فوازير استعراضية مبنية على قصص حقيقية من سير عظماء هذا الفن، ونسينا الريحاني ومسلسله.. وكان بإمكاني التغاضي عما حدث، كما تغاضيت عن عشرات المحاولات السابقة.
غير أن هذا العمل تحديدًا غير باقي الأعمال.. فهو يخص شخصية ارتبطت به بشكل شخصي الحقيقة، وكثيرا ما كنتُ أشعر أن هناك مسئولية تقع عليّ، أو شهادة حق لا بد من قولها في حق أعظم من انجبت الكوميديا العربية.
لذلك حين عرفت أن المخرج محمد فاضل – والذي سبق أن عرفته قبلها بسنوات طويلاً، ربما في 2015، حين اتصل بي بعد ترشيح من الكاتب إبراهيم عبد المجيد، والفنان لطفي لبيب- طالبا مني مقابلته بفيلته بأكتوبر..
وهناك عرض عليّ أن أكتب فيلم عن الجيش المصري، لم يكن السيسي قد أصبح رئيسًا لمصر.. كنا يدوب قد خرجنا من حكم الإخوان.. وكتبت أسوأ عمل كتبته في حياتي على الإطلاق.. كان فيلماً في غاية السوء، تعلمت منه أن الكتابة لا بد وأن تكون نابعة من الذات، وأن الكتابة الموجهة لها ناسها، وأنا لستُ واحداً من هؤلاء الناس..
لهذا حين عرفت أنه يستعد لتصوير مسلسل الضاحك الباكي لم أتردد في زيارة اللوكشين، وإهداء المخرج محمد فاضل مذكرات نجيب الريحاني والأعمال الكاملة لبديع خيري..
وكما توقعت، تعمد الغيطي إخفاء تلك المذكرات نهائيًا، لا أعرف إن كان جهل من مؤلف يدعي أنه ظل طوال الخمس سنوات يجمع مادته أم تعمد لخلق عالمه الوهمي حول شخصية الريحاني..
في الحقيقة لم يعد يعنيني الأمر… لقد عُرض المسلسل بالفعل.. والتزم المخرج بورق كان عليه أن يراجعه ويتحقق منه ويعمل عليه.. ثم إنه – وأقصد هنا المخرج محمد فاضل- لم يضيف للعمل ما يميزه.. لقد تمسك بـ فردوس عبد الحميد كبطلة للمسلسل، وهو أمر سأتجنب الحديث عنه فقد تطوع غيري وهم كُثر بسلخها وسلخه..
أما النجم عمرو عبد الجليل فـ هو ابن السبوبة بلا جدال.. أذكر أنني كنت بمكتب سعيد حامد واتصل بـ عمرو عبد الجليل وأخبره أنني أحضرت مذكرات الريحاني، ولا بد أن يطلع عليها قبل أن يدخل التصوير.. على الأقل من باب فهم جوانب الشخصية، وكان رد عمرو صادم: “مالهاش لازمة”..
ذلك هو فن السبوبة.. كاتب لا يعبأ بالمراجعات التاريخية وفنان لا يهتم بأبعاد الشخصية ومخرج يري أن زوجته نجمة رغم سنها الطاعن وحضورها الثقيل.
تلك الوجبة الفاسدة تُظهر لنا كيف تُفسد الفنون..، ثم يطلون علينا عبر الشاشات ليعبروا عن استيائهم من الفنون المبتذلة ويرفعون شعاراتهم الزائفة نحو الفن الهادف.
الكاتب
-
عمرو عاشور
روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...
كاتب نجم جديد