حين تكون المؤامرة أيدولوجيًا أعنف من حروب البيولوجيا “تاريخ نظرية يوري بيزمينوف”

فتح فيروس كورونا باب النقاش حول المؤامرة التي تحاك من كبار دول العالم، ووصل الجدل لحربٍ كلامية بين الصين وأمريكا، إذ أن بكين اتهمت صراحةً واشنطن بأنها وراء حرب بيولوجية أفرزت الفيروس الفتاك، وبعيدًا عن مسألة المؤامرة البيولوجية لكن تبقى نظرة بيزمينوف أيدولوجيًا هي أسوأ أنواع المؤامرة فكريًا على الإطلاق.

اقرأ أيضًا 
آخر قتلى الحرب العالمية الأولى .. قصص موت الثواني الأخيرة

في الربع الأول من القرن العشرين كان سؤال كيف تدمير أي دولة دون طلقة واحدة هو الصداع الذي يحتل رؤوس قادة العالم وكانت لابد من إجابة عليه قبل دخول الحرب تفادياً لتكرار الخسائر البشرية في الحرب العالمية الأولى التي وصلت إلى 16 مليون قتيل و 20 مليون مصاب.

توماس شومان .. سيرة عراب إسقاط الدول بطريقة غير عسكرية

قبل الحرب العالمية الثانية بسنة واحدة وبالتحديد سنة 1939 م ولد يوري بيزمينوف والمعروف باسم توماس شومان في دولة الاتحاد السوفيتي التي خاضت الحرب ضد النازية وخرجت منها منتصرة لتكون على حرب استخباراتية باردة مع القوة الصاعدة حينها الولايات المتحدة الأمريكية والتي نجحت في الإجابة على سؤال كيف تدمر دولة دون طلقة واحدة ؟.

تمتع توماس شومان بعقلية مخابراتية رغم نمط عائلته العسكرية، فأبوه ألحقه بمعهد اللغات الشرقية ولم يكن يدري أحد من السوفييت أن ستالين جعلها مؤسسةً تابعةً للمخابرات السوفييتية بهدف تأهيل نخبة من الدبلوماسيين والصحفيين ليكونوا جواسيس.

تخرج يوري بيزمينوف من معهد اللغات الشرقية ليسافر ضمن بعثة سوفيتية إلى الهند بهدف تعزيز العلاقات السوفييتة الهندية، لكنه وجد نفسه عميلا استخباراتيا في مهمة استغلال موارد الهند عبر عملية التخريب الأيدولوجي.

نجح يوري بيزمينوف في العملة الإعلامي من خلال وكالة نوفوستي الصحفية والتي كانت هي الأخرى تابعة لجهاز المخابرات الروسية الكي جي بي، واقتصر دوره في نشر معلومات مغلوطة للدول الأجنبية هدفها إعلاء شأن الاتحاد السوفييتي وتخريب هذه الدول.

نجح يوري بيزمينوف في مهمته وسافر إلى الهند لرئاسة مجموعة الإعلام المضاد التابعة للسفارة السوفيتية بهدف تعزيز النفوذ الروسي في الهند عبر جمع أكبر قدر من الشخصيات الهامة ورجال المال والأعمال وشراءهم إما بالمال أو الابتزاز.

انقلب السحر على الساحر حيث احتقر يوري بيزمينوف طريقة المخابرات الروسية فقرر الهروب من الهند لاجئا إلى كندا ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأخذ اسم توماس شومان وأعلن نفسه الأب الروحي للتوعية من مخاطر سياسة التخريب الأيدولوجي التي يقوم بها الاتحاد السوفيتي وكتب كتاباً سماه “رسالة حب إلى أمريكا” سنة 1984 م.

هز كتاب توماس شومان أرجاء الـ CIA وقد تم استخدامه على مدار سنوات في الصراع السوفيتي الأمريكي والذي أسفر في النهاية عن سقوط الاتحاد السوفيتي في 25 ديسمبر 1991 ومات توماس شومان بعد ذلك بسنتين.

نظرية إسقاط دولة دون إطلاق طلقة ؟

لم تضطر الولايات المتحدة إلى سحق السوفيت بالقنبلة الذرية فقد استخدمتها ضد اليابان ولم تزيحها، فلجأت إلى حرب أخرى تكلم عنها توماس شومان في كتاب سماه “رسالة حب إلى أمريكا” وقام بشرحه في محاضرة مصورة له، حيث قال “إن القتال فى أرض المعركة هو أكثر النتائج عكسية وهمجية وغير الفعالة، مشيرا إلى أن استخدام آلة الحرب فى تدمير الدول أغبى الطرق، فأعلى فنون الحرب هو عدم القتال على الإطلاق، وتخريب أى شىء ذى قيمة فى دولة العدو”.

وتابع توماس شومان كلامه في إجابة سؤال كيف تدمر دولة دون طلقة واحدة، قائلاً “حتى يأتى الوقت الذى يكون فيه إدراك عدوك للحقائق مختل لدرجة أنه لا يراك عدوًا له، وأن نظام حضارتك وطموحاتك بنظر عدوك يكون بديل أن لم تكن مرغوبة ستكون على الأقل عملية”.

وأضاف توماس في محاضراته “فى آخر مراحل التخريب بعدها يمكنك إسقاط عدوك بسهولة ودون طلقة واحدة، فهذا هو التخريب بكل بساطة، حيث يتكون من 4 مراحل زمنية محكمة.

وذكر أن أول مراحل المؤامرة التخريبية هى”إسقاط الأخلاق”، وتستمر مدتها من 15 إلى 20 عاما لكى تدمر أخلاق مجتمع وهذه هي المدة كافية لتعليم جيل واحد من الأطفال أو الطلاب وتشكيل المنظور الأيدولوجي لشخصيته، حيث تشمل التأثير أو بطرق مختلفة خلخلة أساليب الدعائية بمختلف المجالات التى تشكل الرأى العام، مثل الدين والنظام التعليمى والحياة الاجتماعية والإدارة ونظام تطبيق القانون والعمل على علاقات أصحاب العمل الاقتصادى.

وعن التخريب الذي يساعد في إسقاط دولة دون طلقة واحدة قال توماس شومان: “أسلوب التخريب شبيه فن الدفاع عن النفس اليابانى، فإذا كان العدو أكبر وأثقل منك سيكون من المؤلم جدا مقاومة ضربته مباشرة، وإذا كان هناك شخص ثقيل يريد ضربك على وجهك سيكون من السذاجة وغير مجدى إيقاف ضربته، ولكن يجب عليك أولا تجنب الضربة، ثم إمساك قبضته والاستمرار فى سحبه إلى اتجاه حركته حتى يصطدم عدوك بالجدار”.

التخريب الأيدولوجي

يرى توماس شومان أن التخريب الأيدولوجي هو السلاح الفعال والأكثر ضمانا في النجاح من فكرة الحرب، واعتمدت خطة توماس شومان المعروفة باسم التخريب الأيدولوجي على 4 قواعد أساسية هي نزع الروح المعنوية من خلال 3 مستويات “الأفكار، الهياكل، الحياة “.

يقول عميل جهاز المخابرات السوفيتى السابق توماس شومان إذا كان المجتمع الذي تريد تخريبه ديمقراطي حر، فهناك حركات مختلفة داخل هذا المجتمع فكل مجتمع به أناس ضد هذا المجتمع، وهم عبارة عن مجرمين بسطاء، وهناك من هم على خلاف أيدلوجى مع سياسة الدولة، وهناك معدومى الضمير، والشخصيات المضطربة نفسيا والتى تعادى كل شئ، فضلا عن مجموعة صغيرة من عملاء الدول الأجنبية، ففى اللحظة التى يتم تحريك هذه الحركات باتجاه واحد، ينهار المجتمع بالكامل، فنحن لا نوقف العدو بل نسمح له أن يذهب وأيضا نساعده للذهاب إلى الاتجاه الذى نريده أن يذهب إليه”.

عن مراحل التخريب تأتي مرحلة تدمير الأخلاق: يقول”شومان”، فى مرحلة تدمير الأخلاق سيكون من الواضح وجود اتجاهات فى كل مجتمع وكل بلد، هنا يتم استغلال الحركات السابقة والاستفادة منهم، حتى يذهبوا إلى الاتجاه المعاكس للأخلاق والقيم والمبادئ.

أهم المجالات التى يتم تخريبها هي الدين حيث يتم تدمير الدين و السخرية منه واستبداله بمختلف الطوائف والعبادات والمعتقدات، بشكل يلهى الناس ويتسبب فى تآكل عقيدتهم، واستبدال المنظمات الدينية المقبولة والمحترمة بمنظمات وهمية تصرف انتباه الشعب، لجذبهم إلى ديانات مختلفة.

إقرأ أيضا

قصة حفل الأهرامات يوم رأس السنة في مصر 2000م “كان الأطول مدةً وأثار جدلاً”

الدين في النظرية

يشرح توماس شومان في كتابه رسالة حب إلى أمريكا والذي قام عليه في محاضرته أن التركيز على الدعائم الفكرية التي ترتكز عليها الدولة المستهدفة كالدين والتعليم والإعلام والثقافة.

يعتقد توماس شومان أنه على المخرّب أن يفكك الدعامة الدينية التي توفر الثوابت الأخلاقية ويمكن تحقيق هذا بطرق عدة أهمها تسييس الديانات السائدة، فربط الأساسيات الدينية بالاتجاهات والصراعات السياسية يعد أول مسمار في نعش هذه الأساسيات لأن هذا يدنسها ويفقد ثقة العامة بها، ويقول بيزمينوف أن تحقيق هذا الهدف يأتي عن طريق زرع كوادر دينية جديدة أو استمالة الكوادر القديمة كي يخوضوا بقوة في المجال السياسي. من الطرق الهامة الأخرى لتحييد الدين.

بحسب مبادئ توماس شومان عن المؤامرة فإن أهم شرط لنجاح فكرة تخريب الدين هو التسويق، فعكوف المؤسسات الدينية على جمع التبرعات من المتدينين تؤدي إلى نتيجتين: أولاهما أن الدين يصبح مجالًا لبروز الأبرع في عملية التسويق الذي ليس من الضروري أن يكون لديه نفس الوازع الأخلاقي، ثانيهما أن المتدين الذي يتبرع يشعر أنه بهذا قد أدى ما عليه تجاه هذا الدين فلا يسعى إلى مزيد من المساهمة مما يبعده عنه روحيًا.

الطريقة الثالثة التي شدد عليها توماس شومان هي جعل الدين مصدرًا للتسلية بأن يصبح رجل الدين كالمؤدي على المسرح وأن يصبح ظهوره أساسيًا في وسائل الإعلام وأيضًا بالاستعانة بالنجوم اللامعين كالممثلين والمطربين للدعاية لبعض الأفكار الدينية، وبهذا تخرج هذه الأفكار من دائرة التبجيل إلى دائرة الهزل.

مؤسسات الدولة

ركز توماس شومان على الحياة الاجتماعية حيث قال أن ضمان دمار مؤسسات الدولة يكون من خلال خطط، قائلاً “استبدل المنشآت والمنظمات التي أسستها التقاليد بمنظمات وهمية، وانتزاع المبادرة من الشعب، ونزع المسؤولية من الروابط التى أسست على الوطنية بين الافراد ومجموعة من الافراد، وفى المجتمع عامة واستبداله ببيروقراطية مصطنعة.

وأعطى توماس شومان في محاضرته عن المؤامرة الأماكن المستهدف في مؤسسات الدولة حيث قال “إعادة هيكلة السلطة ونقابات العمال ثم اللجؤ إلى تعديل القانون وإسقاط النظام، في نهاية المطاف يجب أن تمتلك الإيمان وأن تمنع التخريب ولا تكون ضحية له، حتى لا تدمر دولتك دون طلقة واحدة”.