ديوان ذاكرة نبي لم يرسل .. قراءة سميائية
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
كانت و لم تزل البحوث في العلاقة بين الأدب والفلسفة ، تجري في حلقة وصل بين النقاد والأدباء والفلاسفة، وهذا الذي يجتذب نظر باحثي الأدب و يدفعهم إلى القيام بالتحليل و البحث، بحثا عميقا تراثيا كان أو عصريا ، وذلك لما يتضمنه الأدب من رسائل خفية بوصفة رسائل جمالية فلسفية، تُفهم من سياق المضمون.
هذا المضمون يفهم من اللغات والمنطقيات والأحوال الشعبية، وهذا ما قاله” بورس” في تعريفه لسيمائية بوصفة و تضع النظرية المستخدمة في تحليل هذا الديوان” ذاكرة نبي لم يرسل “، للشاعرة سلمة فايد، أحد أبرز الشاعرات المصريات المعاصرات، وهذا الديوان تحديدا حصل على جائزة الدولة التقديرية .
المنهج السيميائي أصوله وقواعده
إن للسيمائية المعاصرة واضعين هما فرناد دوسوسير ولشارل سندارس بورس، وقد طبقت الفكريات السيمائية المختلفة بينهما وهذا مؤثرة بعدم تعافهما واحد مع الآخر وكذلك اختلاف خلفية حياتهما، إن “بورس” من أعيان الفلسفة والمنطق فقال” إنه لابد المنطق من دراسة طريقة التفكير، وسوسير واضع علم اللغة العامة و يعتبر أن اللغة نظام العلامات التي تتكون من الدال والمدلول.
ثم جاء بعد ذلك” شارل بورس” بخطوط تحليل النص بصورة تفصيلية، كما قال بورس إن العلامة نائبة، وكل الأشياء للإنسان وهذه النظرة هي من ساهمت في تحليلنا لهذا الديون، فقد ساعدت في إيجاد التفاسير و العلامات المشاكل عليها الديوان.
إن التحليل الدلالي للعلامات المستندة إلى النظرية السيمائية لشارل بورس ولتنفك من العلاقات الثلاثية التي قدمها وهي:
1- الممثل أو يقال له مصطلح آخر أساس(ground)
وتنقسم بدورها إلى :
العلامات الوصفية: وهي علامة تبنى على صفة وإحساس
العلامة الفردية: وهي علامة التجسيد وتحقيق إمكانيات الواقع داخل النص
العلامة العرفية: وهي علامة تبنى على أساس القانون والقاعدة والإشارة في
-العلامة الأيقونة
-العلامة الفرعية
العلامة الرمزية
3- المؤول: وهو ليس من يؤول العلامة إنه تحليل ممثلا على موضوعه
والمؤول يكون عملية تفسيرية، وتوجد في ثلاث:
العلامة الفدليلية
العلامة البرهانية
العلامة الإخبارية
تحليل ديوان ذاكرة نبي لم يرسل في إطار سيميائي
الوحدة المسيطرة على الديوان
إن الوحدة الممتد ضمن إطار الديوان الكلي لها وظائف نفسية و إيقاعية و دلالية تتجاوز الحيز الفيزيائي التي تحددها الحواس الكلية ضمن هذا التشكيل، و كذلك فهو يؤشر على تضارب شعور الذات الشاعرة وما يعتريها من حالة السواد والحزن والتشاؤم العميق المنبثق بين جنايات الديوان .
إن الوحدة المسيطرة على الديوان هي وحدة التشاؤم وهذا يتجلى بوضوح بين سطور الديوان، والإشارات واضحة في النص.
ومثال ذلك:
ولايظل سوى الدم المسفوك
إيحاء ومعنىً.. هكذا
قد مزق النص الوحيد
ومات حامله الذي ترك الوريث يرتب الأحداث..
دون إشارةٍ..
****
لا دخان الآن يهدي..
لا سراب ولا غمام..
****
لا صحاب ولا رفاق..
جميعهم صعدوا على أنقاض خيمتك الحزينة..
***
ما زلت تتبع فيّ رائحة الحياة..
وأنت ميت..
كلما مكنت نابك من حياة ضحية..
ماتت حياتك.. فابتعد
***
لا الغيوم ترش وردا كلما مرت..
ولا البستان- حتما-
سوف ينبت في السماء..
***
ثم يخفت صوت التشاؤم قليلا فنكاد لا نشعر به، فهو كصحوة المجنون، وهي تقول
حين يطل في ماء البحيرة وجهه..
حتى يُدوي صوت صرختِهِ..
فيصحو -فجأة – للمرة الأولى..
يصيح لوحده.. دون اشتراك..
متسائلا: “من؟!
من هناك؟!”
وتحدث الصدمة والخلخلة النفسية بين مفقود وموجود بين الأعاصير الفكرية الحسية في النفس الشاعرة
ما بين مفقود..
وموجود
أنا..
وكأنني ضيعت عمري..
كي أرى وجه الحقيقة .. والحقيقة
حين قاربت الوصول
وجدت عينيها الفنا…
هل كان يشبهني الكلام؟
أكلما خبأت قلبي في القصيدة..
كي أواري سوأة الجرح القديم..
رأيتها نزفت دما؟!
وبعدها انبثق طيف أمل من بعيد حينما كتبت..
سأنام..
كيما أمنح الزمن القوي مساحة.. حتى يغافلني ويفقأ
مقلة الغد..
ثم تعود حالة التشاؤم بشكل مريع في قولها..
موقنا أني خدعت و أنني صدقت نيته البريئة..ثم يضحك حين أصحو لا أرى الغد آتيا.. يمشي
ضريرا عكس ساعته.. ويخطئ في عبور شوارع الوقت
المليئة بالشراك..
وتستمر هذه الحالة من الكآبة و التشاؤم ممتدة طوال الديوان مما أفقده الديوان على حالة التوازن الديناميكية المفروضة لتكامل الوحدات.
لعبة الدلائل في النص
النص هو آلة لغوية ليس من السهل التحكم بها، وإنما علينا أن نترك أجزاء النص وكافيه من علامات وتأويلها متسعا من الحوار والجدل والتفاعل الداخلي، الذي يتكشف عن وجود طرق مختلفة للإبداع والتواصل وتحرير مخيلة القاريء، وهما اللذان يجعلان من النص نصا تعدديا قابل لتوليد المعاني، ومنها الدلائل الخطية والعلامات اللغوية ودلالات أخرى .
لعبة الدلائل في نصوص الديوان
النداءات الغريبة
شكلت الشاعرة لوحة من النداءات الغريبة أحدثت صدمة ذهنية للقارئ، ربما لكونها غريبة عليه أو كونها تتشاكل مع حالة التشاؤم المسيطرة على وحدات النصوص، فمنها على سبيل المثال:
يابن انتهاكات الزمان المرتهن
***
ياغريبة أدخليني في سرابك قد أرى مالا أراه
إن هذه النداء غريبه عن اللغة العربية، وبهذا يتضح أن الشاعرة متأثرة بثقافة غربية أو لغة ما..
فكرة المستحيل
هذه الفكرة تتماشى بشكل جيد مع صوت التشاؤم في النصوص إلا أن الشاعرة قد أحدثت اكتئاب مزمن بهذه الفكرة.. الشيء المستحيل، تكاد تشعر كقارئ أن وجود الوجود نفسه مستحيل!!
مثال ذلك
إنها الخيل السفينة
سوف ترحل ثم ترجع
حين يوجعها النخيل
قل إنه الحلم الطليق
اللانهائي الصهيل
قل إنه الحدس الذي
لا شيء إلاه الدليل
قل إنه الحدس الذي
لا شيء إلاه الدليل..
قل إنه الإنسان نخلي..
إنه الإنسان حدسي..
إنه الإنسان
حلمي المستحيل…
التناص في نصوص الديوان ودلالتها الرمزية
مما لا شك فيه أن التناص في مفهومنا النقدي يرجع إلى احتمال قوي في وجود وشائج مباشرة بين النصوص السابقة واللاحقة أو بمعنى آخر بين الكلام سـالفه وحاضره، ويشـير الناقد الفرنسي رولان بارت إلى أن الكلام كله: ” سالفه وحاضره ، يصبُ في النص، ولكن ليس وفق طريقة متدرجة معلومة ، ولا بمحاكاة إرادية، وإنما وفق طريق متشعبة ، صورةٌ تمنح النص وضع الإنتاجية، وليس إعادة الإنتاج “.
صحيح أن التناص له دوره الفاعل في عملية إثراء النص من الناحية الدلالية والمعرفية هذا من ناحية أما الأخرى: فهي القيمة الجمالية التي يبعثها التناص في داخل النص الشعري ” المنتج”؛ لأن الإنتاجية توحي بشكل أو بآخر إلى القيمة الحقيقية وراء هذا النص الذي يستدعي مقولات السابقين أو اللاحقين بصورة ضمنية، ويشير الدكتور صبري حافظ إلى ” أن التناص هو الذي يَهَبُ النص: قيمته ومعناه ، ليس فقط؛ لأنه يضع النص ضمن سياق يمكننا من فض مغاليق نظامه الإشاري، ويَهَبُ إشاراته وخريطة علاقاته معناها، ولكن أيضاً؛ لأنه هو الذي يمكننا من طرح مجموعة من التوقعات عندما نواجه نصاً ما، واستجلاب أفق للتلقي نتعامل به معه. وما يلبث هذا النص أن يشبع بعض هذه التوقعات”.
وترتبط بهذا المفهوم عند كريستيفا فكرة النص باعتباره “وحدة أيديولوجية”، ومن ثم فإن النص يتولد من رحم نصوص أخرى لا يمت لها بعلاقة ما.
وفي الوقت نفسه فهو جزء من هذه النصوص المتغايرة والمتباعدة المختلفة في الزمان والمكان ، فأصبح النص الشعري مُنْتَجْ من خلال عملية الهضم الكبرى التي قام بها المُنْتِجْ ( الشاعر ) ، ومن ثمّ فإن مناطق التناص متعددة في شعر سلمى فايد، وقد تجلى ذلك في نصوص الديوان حتى غلافه، فنلاحظ القرآني ، واستدعاء نصوص الكتاب المقدس ، و تناص موسيقي.
تناص ديوان ذاكرة نبي لم يرسل مع القرآن الكريم
قل هو الوحي الذي
أوحي إلي بما هجست..
وما أردت ..وقل هو
الإنسان مسألتي الوحيدة..
فاستخدام الفعل الأمر (قل ) يـحيلنا بصورة مباشـرة إلى الآية القرآنية في سورة الجن في قوله تعالى “قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبا
وعلى الرغم من الحيلة الفنية في الرجوع إلى النص القرآني واستنطاقه ، تحاول الشاعرة أن تمزج الماضي بالحاضر ، وأن تسقط معطيات النص القرآني على آلامها وأوجاعها أيضاً .
وفي جانب آخر تتناص الشاعر مع المفردات القرآنية ، معتمداً على الحيلة الفنية في قولها:
“بصرت ما لا يبصرون..”
فقد اتكأت الشاعرة على هذه المفردات ليخلق بذلك إيقاعه الخاص وموسيقاها المفعمة، و تدل على رؤية الشاعر تجاه واقعه وأمته العربية ، وتدل أيضاً على روح الحداثة من خلال التراث، إذن فإن الأنا الشاعرة تجعل من نفسها منصهراً للتراث ، لتخرج خلقاً من صنعها ( النص الشعري ) .
تناص مع نص الكمان لمحمود درويش
في قولها
باسم آخر طلقة صوب اليقين..
وباسم آخر صرحة وقت الحنين..
وباسمه..
صوت الكمان..
قصيدة.. لم يستطع أحد كتابتها..
موسيقى الديوان الخارجية
يبدو أن الشاعرة لديها عدم معرفة في استخدام الأبحر الشعرية، ولهذا نراها استخدمت الأبحر المركبة في نصوص التفعيلة، فنرى بحر الكامل مسيطر على الديوان فمن أول قصيدة بالديوان” هكذا يوحى إلي” إلى نص سكوت، أي أكثر من ثلثي الديوان، وحينما استخدمت الشاعرة بحر مختلف، وقعت في فخ الكسر، وهو البسيط حيث سقطت في قولها” وطريقهم زور..”، وهذا دليل واضح على هذا الفقر السالف.
وفي قصيدة” لسعة حب” نراها استخدمت بحر المتقارب، ثم عادت من جديد إلى بحر الكامل حتى قصيدة وأين الحياة؟
فقد استخدمت بحر المتدارك وهو بحر شهير استخدامه في شعر التفعيلة كما اوضحنا، ومن ذلك ديوان الطيور المهاجرة لأمل دنقل، وديوان الفرسان لأبو سنه…، ثم رجعت من جديد لبحر الكامل إلى نهاية الديوان.
نظرات في غلاف الديوان
اختارت الشاعرة درجات اللون الأخضر ليكون الواجهة لنصوصها، والدلالة النفسية للون الأخضر مغاير تماما مع حالة النصوص داخل الديوان فذكرنا أن الوحدة المسيطرة هي التشاؤم والحزن، والدلالة النفسية لهذا اللون هي البدايات الجديدة، والتفاؤل، والتجديد المستمر، والقوّة، والنشاط، والحيويّة، والخير، والسلام، بالإضافة إلى الحبّ، فكلّ ما هو أخضر يدخل إلى قلب الإنسان ونفسه بسهولةٍ، وكلّ ما ينبض بالحياة يتلوّن به، وهذا منافي لما ذكرته الشاعرة في ديوانها.
ومن الممكن أن الشاعرة قد قصدت دلالة اللون في الثقافة الصينية، وهو يرمز إلى الشرق.
ثم يظهر شكل ضبابي لإنسان لم يظهر منه سوى دماغ.. ينظر إلى شمعة مضيئة، هذا المشهد له دلالة في المسيحية ، وهي الصلوات في الكنائس الشرقية والغربية، هذه الشمعة ماهي إلا تعبيرًا تصويريًا دقيقًا عن وقفة العابد أمام الله.
فهي تظهر هادئة ساكنة وديعة، وقلبها يشتعل اشتعالًا بنار ملتهبة تحرق جسمها البارد الصلب، فتذيبه إذابة، وتسكبه من فوهتها دموعا تنحدر متلاحقة تاركة خلفها خالة من نور، يسعد بها كل من تأمل فيها أو سار على هداها..
أما عن دلالة الألوان في الكتابة على الغلاف ..فنراها استخدمت اللون الأبيض وهو موائم تماما مع فكرة الشمعة تلك والإنسان الضبابي، كما أنها استخدمت اللون الأحمر في اسمها وكلمة شعر، ربما تعبر عن الدماء التي ستكتب بها أشعارها وتحررها من وجدنها عبر الورقات.
الكاتب
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال