ذكرى المواعيد الغرامية الأولى : عندما تقتل أشباحك
-
أحمد مدحت
كاتب نجم جديد
“ليتنا أنا وأنت جئنا العالم قبل اختراع التلفزيون والسينما، لنعرف هل هذا حب حقًا أم أننا نتقمص ما نراه؟”
أحمد خالد توفيق
(1)
ذكرى المواعيد الغرامية
حواسك قد تخدعك؛ قد تتوهم رؤية ما ليس حقيقيًا، قد تسمع همسًا لا وجود له إلا في خيالك، بل إن إصابتك بفيروس كورونا- لا قدر الله- قد تُكلفك فقدان حاستي الشم والتذوق إلى أن يشفيك الله.
حواسك تنخدع وتخدع عقلك، قد تنقل له ما ليس موجودًا من الأساس، فماذا عن المشاعر؟ هل يمكن تلفيقها أيضًا؟ هل يمكن أن تنخدع بإدراك ما ليس حقيقيًا؟
الإجابة القاسية، الصادقة إلى حد كبير: نعم، المشاعر يمكن تزييفها بسهولة.
لقد دفع بعضنا سنينًا من عمره في عيش الوهم، بدلًا من تقبُّل هذه الحقيقة المُرَّة.
(2)
في الفيلم الإيطالي الجميل: “أفضل عرض”، الذي عُرض في 2013، تتمحور القصة بشكل رئيسي حول إمكانية تزييف المشاعر من عدمها، من خلال تتبع حياة خبير المزادات المتميز “فيرجل أولدمان”، البارع في تمييز الأصلي من الزائف في التحف الفنية التي يُسوِّقها، ويشتري بعضها ليتاجر فيها فيما بعد، رابحًا الملايين.. لدى “أولدمان” نظرية شخصية ترى أن بداخل كل عمل مُزوَّر شيء أصلي، ربما يكون تافهًا لا يمكن ملاحظته، إلا أن عين الخبير تلتقطه، وهذا الشيء الأصلي يُعبِّر عن الروح الحقيقية للمزوِّر الذي يحاول التماهي مع الصانع الأصلي.. فهل يمكن أن تحتوي المشاعر المُزيَّفة لحظات أصلية صادقة أيضًا؟
لا أعرف إنسانًا لم يعش تجربة شعورية مُزيَّفة، سواء على مستوى الارتباط العاطفي أو علاقات الصداقة مثلًا، بل إن البعض وقع ضحية نَفْسه في الانخراط في علاقة زيَّف لروحه فيها مشاعر لم تكن حقيقية، ادَّعى أمام نّفْسه ما لا يمتكله بداخله، فأذى روحه وغيره من الناس؛ كذبة مُضاعفة جبّارة!.
مصافحة المصلين لبعضهم بعد التسليم “فكر بن باز في مساجد مصر”
أعرف مَن خرَّبوا حياة أعز أصدقائهم، وآخرين خانوا شركاء حياتهم بدم بارد، وبرروا الخيانة وتوابعها لأرواحهم بمنتهى السهولة.. مسألة المشاعر مُربكة ولا يمكن الاعتماد عليها وحدها كما يبدو، بل إن اندفاعك وراء مشاعرك بشكل مُبالغ فيه، قد يُعميك عن حقائق أُخرى واضحة كالشمس، ويجعلك ضحية يسهل تحطيمها بمنتهى السهولة.. المُشاعر، حتى ما يبدو منها جميلًا وعميقًا للغاية، يُمكن تزييفها للأسف.
لم يدرك “أولدمان” ذلك إلا متأخرًا جدًا، ودفع الثمن.
(3)
ذكرى المواعيد الغرامية
المشكلة ليست في زيف المشاعر، الأزمة أن كثيرين منّا يقعون أسرى للحظات بعينها في حيواتهم، لحظات سعادة قُصوى لم يجربوها من قبل، وحتى لو كانت جزءًا من تجارب مُزيفة شعوريًا بالكامل مع طرف آخر يحترف الإيذاء، فإنهم يطاردون ذات اللحظات لفترة طويلة من حياتهم، وربما يحاولون إعادة إنتاجها مع شخص آخر.
كيفية تغيير الوقت والتاريخ في ويندوز 10 في حالة فشل النظام في التحديد الأوتوماتيكي
المشاعر ليست كالتُحف، لا يمكن أن تحتوي مشاعر مُزيَّفة على لحظات صدق، مهما أقنعك عقلك بعكس هذا هروبًا مِن مرارة الواقع.. ليس في الأمر تقليلًا منك، فتعرُّضك لتصديق جُرعة مشاعر مُزيَّفة لا يُدينك بقدر ما يمنحك درسًا قاسيًا للمستقبل.. أما الانغماس في البحث عن تكرار لحظات بعينها، تظنها حقيقية، في قصص أثبت لك الواقع زيف مشاعر أصحابها، فهذه مشكلة قد تُكلفك ما تبقى من حياتك.. واسأل “أولدمان” بطل فيلمنا الجميل؛ ربما تقتنع أن تصديق الحقيقة أهون من الجري المستمر خلف المزيد من الوهم الشعوري.
ذكرى المواعيد الغرامية
(4)
خلال الأيام الماضية على موقع “تويتر”، تبادل بعض مستخدميه ذكرياتهم عن اللقاء الغرامي الأول في علاقاتهم العاطفية، التي انتهت معظمها نهايات غير سعيدة، رُغم ما يحتويه اللقاء الأول أحيانًا من لحظات جميلة قد تُنبئ بمستقبل لطيف للعلاقة، قبل أن يصدم الواقع أصحابه بأنها مجرد “لحظات” لا يُفترَض فيها الصدق بالضرورة، وحدها الأفعال والمواقف الواقعية هي الاختبارات الحقيقية لأصالة المشاعر التي وصلتك من عدمها.
وضعتُ الموبايل على منضدة الكافيه نصف المُزدحم الذي جلستُ فيه، وعلى الطاولة المُقابلة انهمك رجل في تحضير “رضعة” في قارورة بلاستيكية صغيرة يحملها، والزوجة تُمسك بالرضيع تلاعبه وتحاول استرضائه قليلًا كي يكف عن البُكاء.. الابتسامات المُتبادلة بين الأم والأب، والحنو الذي يحملان به طفليهما، والتعاون البسيط غير المتكلف بينهما لتدبُّر الموقف، ربما هذه هي السعادة التي أتخيلها الآن، سعادة واقعية ملموسة بسيطة يمكن الاستثمار فيها، وتستحق التمسُّك بها.
لم أعد طامعًا في سعادات عارمة يُغلفها الزيف، نريد أمانًا، وبعده يأتي أي شيء.
الكاتب
-
أحمد مدحت
كاتب نجم جديد